العلاقة بين الكاتب والسلطان معقدة في كل الدنيا وهي في دنيا العالم الثالث أكثر تعقيداً، هكذا كتب محمد حسنين هيكل في مقدمة كتابه الشهير “بين الصحافة والسياسة”، وهيكل نفسه قدم تجربة فريدة في هذا المجال، ونموذجاً يدرس حول دراما تلك العلاقة. لم يكن هيكل بدعة سواء في موقعه الأثير لدى جمال عبد الناصر أم من بعده في موقفه القلق مع أنور السادات، وقد أشار إلى أنه ليس فريداً وأن هناك حالات أخرى غير حالته، حيث التجربة لها نظائر مشابهة في بلاد كثيرة اختار منها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية: والتر ليبمان[1] مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، بيف ميري رئيس تحرير الموند مع شارل ديجول، وليام زيس موج رئيس تحرير التايمز مع مارجريت تاتشر.
والتر ليبمان
ما لم يقله هيكل أن التاريخ العربي شهد مثل هذا النموذج في عصور مختلفة وبصور تناسب العصر[2]، فقد اقترب عبد الحميد الكاتب[3] من السلطة حتى أصبح وزيراً مقرباً ومسموع الكلمة في دولة الأمويين، وكانت للجاحظ[4] مكانة مميزة في عصر العباسيين، وكذلك كان أبو تمام مع المعتصم، والمتنبي مع سيف الدولة، ومن بعده مع كافور.
ولعل المتنبي هو أقربهم جميعاً إلى قلب وعقل هيكل، وكان كذلك الأقرب إلى تجربته مع فوارق يفرضها تغير الظروف واختلاف الأحوال. كان المتنبي ملك الكلمة في عصره وأصبح هيكل، الذي يحفظ العشرات من أشعاره خليفته على عرش الكلمة في عصره، ولكل عصر أسلوبه، وأدواته، وكما عمل المتنبي إلى جانب وبالقرب من رجل دولة مثل سيف الدولة، ثم عمل إلى جوار وبالقرب من حاكم مثل كافور، عمل هيكل مع وبالقرب من رجلٍ بحجم ودور زعيم مثل عبد الناصر، ثم عمل إلى جوار وبالقرب من حاكم مثل السادات.
الأول ظل وفياً لسيف الدولة وهجا كافوراً، وفضح نفسية العبد فيه: «لا تشتري العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاس مناكيد»، وظل الثاني وفياً لعبد الناصر وبطريقته هجا السادات ورأي فيه نفسية العبد: «ابن بنت عبد زنجي، ورث عن أمه كل تقاطيعها وورث مع هذه التقاطيع مشاعر غاصت في أعماقه إلى بعيد». (هيكل ـ خريف الغضب ـ ص35ـ ط الأهرام).
بين محمد حسنين هيكل وأبو الطيب المتنبي خيوط تواصل متعددة، المتنبي عند النقاد والقراء العرب من أعظم شعراء العربية أو هو أكبر شعرائهم العظام، لا يضاهيه أحد من اللاحقين عليه في مهارته في النظم، وسلاسته في التعبير، وتمكنه من العبارة الرصينة المنمقة، ولا يباريه شاعر في كثرة الاستشهاد بشعره، أو في عدد الأبيات التي جرت مجري الأمثال، وأضحت على كل لسان وباتت من مكونات النفس والعقل العربيين.
كان المتنبي سيد شعراء عصره، وكذلك أصبح هيكل في عصرنا هو سيد العبارة الرصينة المنمقة، يكتب المقال السياسي كأديب، خلب الألباب بكتاباته، ونحت الكثير من العبارات التي أصبحت تتردد على كل لسان عربي، يكتب المقال السياسي على صورة سيناريو مكتمل يصف فيه الوقائع ويرصد الأحداث ولا يغيب عنه ما يعتمل في النفوس، ويصف المكان، ويسرد الآراء في صورة حوار مع الأحداث أو الأشخاص.
الأستاذ كامل زهيري
وأذكر الكاتب الكبير الأستاذ كامل زهيري وهو يلفت نظري إلى أن هيكل أدرك مبكراً ولع جمال عبد الناصر بالسينما، فراح يكتب مقاله على صورة «السيناريو»، وقد نقل عن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة قوله لجمال عبد الناصر وهو يحسده على هيكل، وكانا يجلسان على مائدة المباحثات الثنائية بين الوفدين المصري والتونسي، فوجئ عبد الناصر بالرئيس بورقيبة يقول له: كلنا نملك تسجيلات صوتية لما يجري من محادثات بيننا تسجلها أجهزة التسجيل في قاعة المحادثات، لكنك وحدك يمكنك أن تعتمد على تسجيل مصور لكل ما جرى بقلم هيكل الذي لا يفوته تسجيل المشاعر وردود الأفعال التي تظهر على الوجوه وقد لا تنطق بها الكلمات.
أن يحفظ هيكل مئات الأبيات من شعر أبي الطيب لا يمكن فهمه فقط في حدود ما كان يردده من أنه تدريب للذاكرة، كي تظل حية نابضة، ولع هيكل بالمتنبي لم يكن مجرد ولع بشعر الشاعر، بل هو في ظني ولع بالشاعر، ولع بالنموذج مكتملاً، موهبة وطموحاً، موهبته الصحفية، وطموحه السياسي.
كان المتنبي عظيم الطموح، كما كان هيكل، وكان هيكل، كما المتنبي، معتداً بنفسه وبدوره يردد: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي»، وكما سعي المتنبي في زمنه إلى تحقيق حلمه المستحيل في أن يكون المفكر حاكماً، ولو في إمارة صغيرة، سعي هيكل كي يفعل الشيء نفسه مع السادات ولو بالواسطة، بأن يسيطر على عقل وقلب السادات، ولعل أحد أهم مسببات أن يقف هيكل مع السادات هو طموحه في أن تسهل شخصية السادات عليه تحقيق الحلم المستحيل في أن يصبح المفكر حاكماً ولو بالواسطة.
ولع هيكل بالمتنبي، إذن، ولع طبيعي، فالمتنبي هو صورة المثقف العربي الذي رغب بشدة في أن يكون المثقف أميراً، وهو طموح هيكل أيضاً، والمتنبي هو المثقف الذي اقترب عن طريق قلمه، كما فعل هيكل، من السلطة وظل في أحضانها ثم عندما فارق السلطان دانت له سلطة المثقف.
وكما المتنبي أيضاً، كان أكثر ما يقلق هيكل هو الحفاظ على أمنه الشخصي على طول مشواره بالقرب من السلطة، وربما من هذه النقطة بالذات جاء وقوفه مع «كافوره» في مواجهته مع أسماهم «مراكز القوي» في مايو سنة 1971.
كان يتقدم في عالم السياسة بقدر ما يتقدم في عالم الصحافة أو بالتوازي، خالط الصحافة بالسياسة وخلط السياسة بالصحافة، قال مرة ليوسف إدريس انه يمارس السياسة كصحفي، ونقول نحن إنه كان يمارس الصحافة كسياسي، ولكنه للحق ظل وفياً لكونه صحفي أولاً، عارفاً بأن هذه هي نقطة قوته، نقطة تميزه عن الآخرين، وبقي يردد دائماً، بمناسبة وبدون مناسبة: «أنا مجرد جورنا لجي».
«جورنا لجي» ظل مخلصاً للصحافة كما خبرها ممن تعلم منهم، أو تعلق بهم في بدايات حياته العملية، تلك الصحافة المختلطة بالسياسة، والتي تعرف للصحفي دوراً في صناعة الأحداث التي يكتب عنها أو يتابعها عن كثب.
وظل مخلصاً لنموذج أستاذه التابعي، صحفي قريب دائماً من مصانع الأخبار ومن مسارحها، قريب دائماً من القمة حيث تطبخ «الأخبار» وربما يشارك في إضافة «بهارات» خاصة عليها تكسبه دوراً وأهمية وتزيده قرباً من القمة.
ظل هيكل ابناً باراً لمدرسة صحفية شعارها أن الصحفي الكفء قريب من الحدث، قريب من القمة، وبعدما خرج من دائرة التأثير في صنع الحدث أو صياغة القرار، أغلق الباب وراءه أمام تكرار نفس التجربة وكان عصر جديد قد أذن بالبزوغ، استبدل فيه الحكام تبعية الأبواق بمصاحبة المثقفين، وتحولت الأهمية من الأقلام على الورق إلى الإعلام على الفضائيات، مع نزول كلمة النهاية على دور المثقف، وبدء دور الحاشية والمطلبتية والأبواق.
لعب هيكل كما فعل المتبني مع السلطة كلٌ في زمانه وحسب ظروفه، وذاقا عسل الاقتراب من السلطة كما تجرعا مرارة اللعب مع الكبار.
[1] والتر ليبمان كاتب صحفي كان الأكثر نفوذا وأحد المعلقين الأكثر شهرة في القرن العشرين وصفه الرئيس روزفلت بأنه اذكى رجل في عصره داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
[2] في العصر الحديث هناك نموذج قلم عباس محمود العقاد إلى جانب سعد زغلول، ومحمد التابعي إلى جوار مصطفى النحاس، ومصطفى أمين وموسى صبري مع أنور السادات وغيرهم كثيرون.
[3] عبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري (75 هـ -132 هـ/749م) هو الأستاذ الأول للكتابة الفنية عند العرب، نشأ في الأنبار واحترف التعليم في الكوفة واتصل بخلفاء بني أمية، وعظمت منزلته عند الخليفة مروان بن محمد حتى صار كاتباً وصديقا له وكان من أشهر الكتاب في أواخر عصر الدولة الأموية وتوفي سنة 132 هجرية. هرب مع مروان بن محمد إلى مصر حيث قتلهما العباسيون في أبو صير بصعيد مصر.