تخيل أن تعيش وبداخلك أكثر من عشرين شخصية متنازعة ليس لك سيطرة عليهم، أحيانًا تكون سيدة حازمة مهووسة بالنظافة، وأخرى تتحول لطفل في التاسعة من عمره. هذا ما حدث لـ”كيفن” بطل فيلم “انفصام” -لعب دوره جيمس مكافوي- بعد ما توالت عليه الصدمات منذ طفولته إضافة إلى معاناته من أم قاسية، ليفقد هويته الأصلية ويعيش ممزقًا بين شخصيات مختلفة تظهر وفقًا لما يقتضيه الموقف. ومع تعقد شخصية البطل وتطور اضطرابه النفسي يرتكب جريمة باختطافه ثلاثة فتيات وحبسهم في قبو لتبدأ رحلة من التعذيب النفسي.
تعيش فتاتان من الثلاثة حياة مثالية، تخلو من المتاعب والأذى سواء النفسي أو الجسدي، وهذا هو سبب اختيار بطل الفيلم لهما لأنه يريد أن تذوقا مر معاناته، ليقرر تنفيذ مخططه بعد حفل عيد ميلاد واحدة منهما، إلا أنهما يعرضا على فتاة ثالثة تدعى “كاسي” -لعبت دورها أنيا تايلور جوي- توصيلها إلى المنزل، وهي فتاة انطوائية مثيرة للمتاعب وغير محبوبة في المدرسة، فينطلق “كيفن” بالسيارة بينما كانت الفتيات الثلاثة ينتظرن والد إحداهن، متجهًا نحو قبو في منطقة مجهولة.
يبدأ “كيفن” في ممارسة ألعاب نفسية على الفتيات اللاتي تحاولن الهرب منه ولكن دون جدوى، بينما تظهر في الفيلم شخصية جديدة، وهي طبيبة نفسية “د. فليتشر” التي تتابع تطورات حالة كيفن من بين العديد من حالات انفصام الشخصية. تكشف لنا هذه الطبيبة أن هناك ٢٣ شخصية تتبادل الأدوار داخل بطل الفيلم، كل منهما مستقل تمامًا عن الآخر، ليس فقط من حيث الشخصية وإنما أيضًا من الناحية الفسيولوجية، فمثلًا إحدى الشخصيات تعاني من مرض السكري وتحتاج إلى حقن الأنسولين، بينما لدى شخصية أخرى لدغة مميزة في الكلام، ومع التطور النفسي للحالة يكشف البطل للطبيبة عن قرب ميلاد الشخصية رقم ٢٤ وهي شخصية الوحش.
مع انطلاق شخصية الوحش يقتل البطل فتاتين من الثلاثة إضافة إلى الطبيبة التي حاولت إنقاذهن، ويتجه نحو الفتاة الأخيرة “كاسي” لينهي مهمته، إلا أنه يكتشف آثار تعذيب على جسدها، ويتضح لنا من خلال “الفلاش باك” أن عمها الذي تولي رعايتها بعد وفاة والدها أساء استخدام وصايته من خلال تعذيبها والاعتداء الجنسي عليها، ليقرر “كيفن” تركها باعتبارها “نقية” حسب وصفه لأنها غير مرفهة مثل الآخريات.
تعتبر فكرة الشخصيات المتعددة داخل الفرد الواحد من الأفكار الجوهرية في علم النفس، ليس فقط بالنسبة للمرضى النفسيين وإنما حتى الأسوياء، بداية من أبو الطب النفسي “سيجموند فرويد” الذي قسم الشخصية إلى: “الهو” الذي يمثل الغرائز و”الأنا” الذي يمثل العقلانية وأخيرًا “الأنا الأعلى” الذي يمثل القيم العليا والمثالية، وحتى “إيريك بيرن” مؤسس نظرية التحليل التفاعلي القائمة على وجود ثلاث شخصيات رئيسية مختلفة داخل الإنسان تتبادل الأدوار فيما بينها وفقًا للمواقف.
وفقًا لبيرن توجد حالة “الأنا الطفلية” التي يتحول فيها الإنسان لطفل سواء كان “طفل حر” يلعب ويرقص ويتعامل بعفوية كما يحدث لنا في الحفلات أو الرحلات مثلًا، أو “طفل متكيف” يذعن لمن أمامه وينسحب من النقاشات ولا يعارض أبدًا وهي الحالة التي تتلبسنا عندما نقرر الانبطاح في المواقف العصيبة حتى تمر العاصفة بسلام، وأخيرًا “الطفل المتمرد” الذي يطيح بكل القواعد ويعترض على كل شيء وأي شيء وهو ما يظهر عند تعرض الإنسان لضغوط شديدة تجعله يضرب بكل شيء عرض الحائط. هناك أيضًا حالة “الأنا الوالدية” وفيها يكون الإنسان إما “والد راعي” يتفهم من أمامه ويسمعه ويحتويه بكل تناقضاته كأب حنون، أو “والد ناقد” يلوم ويأمر ويعاقب ويثور على من أمامه، وأخيرًا هناك حالة “الأنا الراشدة” وهي حالة عملية جدًا لا تفهم إلا لغة الأرقام وحقائق الواقع بلا مشاعر وتظهر عندما يحتاج الإنسان أن يحسم قرارًا ما بحيادية مطلقة.
لذلك، فإننا جميعا نشارك “كيفن” في وجود شخصيات عديدة داخلنا بشكل أو بآخر، لكن بطل الفيلم مصنف مريضا نفسيا لأنه فقد السيطرة على تلك الشخصيات وباتت شخصيات منها مهيمنة على أخرى.
في نهاية الفيلم يسيطر الجانب المظلم منه أو ما أسماه “الوحش” على باقي الشخصيات، ورغم أن هذا الوحش بمختلف أشكاله موجود داخلنا أيضًا، إلا أنه يتنازع مع ما فينا من خير، وهذا أحد أهم صراعات الإنسان في الحياة، صراعه مع نفسه، أن يفهمها ويروضها حتى يصير إنسانًا سويًا بما فيه الكفاية ليتعامل مع البشر دون إيذائهم بأي شكل أو التعدي على أبسط حقوقهم في الحياة دون وجه حق، حتى وإن لحقه الأذى هو شخصيًا، وتجسد ذلك شخصية “كاسي”، إلا أن هذا النمط الأخير يندر وجوده، بينما السائد هو نمط بطل الفيلم الانتقامي.
رغم كم الرعب النفسي والمشاهد المحمومة في الفيلم، إلا أنه يطرح تساؤلات جديرة بالتأمل حول الإنسانية، حول أنفسنا، وكيف يمكن أن نخرج من معركة الحياة منتصرين عليها ونحن بكامل إنسانيتنا، قبل أن تهزمنا هي لنتحول إلى وحوش.