في الزمن الذي كان فيه خديو مصر هو صاحب “الحضرة الفخيمية” يفرض سلطانه وجبروته على أبناء المحروسة ويرضخ لأوامر المعتمد البريطاني المحتل، كانت الصحافة هي “صاحبة الجلالة” يقبض أبناؤها على حقهم في ممارسة الرقابة والنقد، وهو ما كرهه الحاكم فحاول بذهبه إغواء “أصحاب الجلالة” وأشهر سيفه في وجه كل من أبى الدخول في المعية، فسجن وحاصر ونفى المدافعين عن حرية الوطن من أرباب القلم.
بطل هذه الحلقة من “أصحاب الجلالة” هو الصحفي الرائد أحمد حلمي ذلك الرجل الذي ذاع صيته عن طريق شارع يحمل اسمه ويربط القاهرة بالقليوبية، أما ما وراء هذا الاسم من تضحيات ونضال في سبيل حرية الوطن واستقلال الصحافة فلا يعرفها معظم من يعبرون هذا الشارع .
المشي إلى الإسكندرية
ولد أحمد حلمي “1875- 1936″، في حي الحسين، رباه خاله بعد وفاة أبيه السيد حسن عامر جاهين، وكان خاله يعمل باشكاتب في وزارة الأشغال، وأراد له أن يعمل في وظيفة حكومية فذهب به إلى خان جعفر ليتعلم القراءة والكتابه، إلا أن حلمي تمرد على المستقبل الذي رسمه له خاله، وفقا لما قاله نجله بهجت للدكتور إبراهيم المسلمي رئيس قسم الصحافة الأسبق بجامعة الزقازيق في كتابه “أحمد حلمي سجين الحرية والصحافة”.
هاجر حلمي إلى الإسكندرية مشيًا على الأقدام وهناك عمل في إحدى الشركات الأجنبية وتعلم فيها اللغة الفرنسية وثقف نفسه بنفسه، ولما صدرت جريدة السلام اليومية بالإسكندرية عام 1898 عرض عليه صاحبها غالب طليمات أن يعمل مراسلا لها في القاهرة يغطي أخبار القصر الخديوي والوزارات.
محرر اللواء الأول
وعندما أصدر الزعيم مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني جريدة اللواء في أوائل عام 1900، عمل بها ، جامعًا بينها وبين عمل آخر ثم تفرغ للعمل الصحفي بشكل كامل عام 1902، حتى صار محرر اللواء الأول.
دب خلاف بين حلمي وعلي كامل شقيق زعيم الحزب الوطني، وقرر حلمي ترك الجريدة فراسله مصطفى كامل قائلا: “أعرف أني أتعبتك هذا العام عن رغبة في جعلك أول صحفي في مصر وستكون كذلك رضيت أم لم ترض.. أملي فيك فلا تضيعه ولا تقتل عندي الثقة بالناشئة المصرية التي أنت خير ممثل لها تحت ظل اللواء”.
استقال حلمي من “اللواء” بعد وفاة مصطفى كامل في فبراير 1908، إثر خلاف نشب بين علي كامل شقيق زعيم الحزب الراحل وبين زعيمه الجديد محمد فريد.
في تلك الفترة تعاون مع “الأخبار” وكان يرأس تحريرها آنذاك أمين الرافعي، وكتب فيها مقالا يطعن في سياسة “اللواء” التحريرية” ويظهر الشقاق بين ورثة مصطفى كامل.
دعا حلمي المصريين إلى التوقيع على عريضة شعبية ترفع للخديوي عباس حلمي، يطالبه فيها بدستور للبلاد ومجلس نيابي، ووصلت التوقيعات إلى 75 ألف توقيع، وأحدثت دويا هائلا في البلاد.
في 13 يونيو عام 1906 وقعت حادثة دنشواي، وذهب أحمد حلمي إلى محل الواقعة، “غمس قلمه في دماء جرحى وشهداء الحادث وسطره على صفحات اللواء في أخبار وتحقيقات كان لها أكبر الأثر في إلهاب المشاعر الوطنية وفي كشف الصورة الحقيقة للاحتلال في عهد المعتمد البريطاني اللورد كرومر، وفقا لما ذكره إبراهيم المسلمي في كتابه.
كان من أبرز ما كتبه حلمي مقالا بعنوان “يا دافع البلاء” جاء فيه: ما مصيبة نازلة من السماء، ورزيئة طالعة من الأرض، آخذتين عشيرة أو قبيلة من يديها ومن خلفها وعن أيمانها وشمائلها.. فتخرب الديار وتيتم الصغار وترمل النساء وتثكل الأمهات، أشد إيلاما مما قاساه أهل دنشواي”.
قال المفكر الكبير عباس العقاد عن هذا المقال: “لا نعرف فزعا شمل القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه كالفزع الذي شمله يوم قرأ الناس أخبار هذه الفاجعة ونشرتها اللواء بعنوان يا دافع البلاء”.
وفي 24 أبريل عام 1908، وبعد أن ترك العمل بـ”اللواء” أصدر العدد الأول من مجلة “القطر المصري”، ورغم الأمطار الشديدة التي صاحبت ظهور ذلك العدد فقد تم توزيعه بالكامل في نفس يوم الصدور فاضطر حلمي أن يصدر طبعة ثانية، وفق ما أورده المسلمي.
جدد حلمي الدعوة إلى وضع دستور للبلاد من منبره الجديد “القطر المصري”، وكتب مقالا بعنوان “هل الذي نطالب به دستور جديد معدوم أم هو دستور قديم معلوم؟”، فقدم إلى المحاكمة.
تحولت “القطر المصري” إلى جريدة بعد 6 شهور من صدورها، ونقلت مقالًا عن جريدة العدل التركية سبب أزمة في بر مصر كلها، جاء فيه: “إن الأمة المصرية قادرة على انتزاع السلطة ممن ينكر حقوقها وأن مصر لم تستفد من أسرة محمد علي إلى الآن غير الشقاء والبلاء والظلم والضنك والديون وضياع حقوقها في قناة السويس ووقوعها تحت الاحتلال، لقد جنت هذه الأسرة على مصر.. وأن الأمة المصرية إن لم تأخذ الدستور عطاءً أخذته قسرًا”.
بعد نقل هذا المقال في “القطر المصري”، وجهت النيابة إلى حلمي تهم التطاول على نظام حقوق الوراثة، والعيب في حقوق الحضرة الفخيمية الخديوية، والدعوة إلى قلب نظام الحكم، فرد حلمي على تلك التهم قائلًا “الحق أكبر والقضاء أعدل”.
ويقول مؤرخ الصحافة العربية فيليب دي طرازي: : إن هذه الجريدة التي كان خطها المناداة بالعداء للاحتلال وانتقاد سياسة الأسرة الحاكمة، لم يبق عظيم الا قرأها وعرفها، حتى أن الخديوي عباس نفسه كان يقرأها خلافا لعادته ولا يطالع سواها من الصحف، وحتى ضباط الجيش، حتى أن حكومة السودان لما قررت منع دخولها إلى البلاد كان الضباط يخفونها في طيات ملابسهم”.
خاض حلمي معركة ضد “المعية الخديوية” وكشف الستار عن فساد أمراء الأسرة، واتهمهم ببيع الأوسمة والرتب للأعيان، وطالب الجيش بالدخول فى الحركة الوطنية، مما أثار قلق الخديوي والاحتلال فقامت عليه القيامة وتوالت الدعوى القضائية ضده.
الوزارة البطرسية
هاجم حلمي حكومة غالي في سلسلة مقالات “الوزراة البطرسية” انتقد فيها انتشار الفساد، ووصفها بأنها “جامحة في غلوها وها قد وصلت بالبلاد إلى منتهى الخراب والدمار والغلاء المستحكم”، مرجعا ذلك إلى “حكومة الفرد، وما أدراك ما حكومة الفرد فهي التي تهزأ بالشعب ولا تحترم إرادته.. وتسعى إلى قتل الناس قتلا أدبيا حتى يصبحوا كلابها أو كالأنعام بل أضل، هي الحكومة التي تسلب الناس أكبر حق منحه الله فتغير على حرياتهم فتسرقها”.
وكتب عن إعادة العمل بقانون المطبوعات في 25 مارس عام 1909 قائلا” إن ذلك البعث ما هو إلا للتضييق على الصحافة الوطنية التي بدأت ترشد وتنتقد أعمال الاحتلال وحكوماته”، فرد عليه بطرس باشا غالي في حوار لصحيفة “البروجريه” الناطقة باللغة الفرنسية، قائلا: “الغرض من القانون ليس منع انتقاد الحكومة بصدق وحق كلا، بل نحن نقابل الصحف التي تظهر للحكومة أخطائها بالشكر والامتنان”، فرد عليه حلمي: “ما هو الفرق بين التقييد بسلاسل من ذهب أو من حديد؟، أليس التقييد واحدا على كل حال فهو المانع للترقي والعائق للتقد”.
ووفقا لما جاء في كتاب الدكتور إبراهيم عبده “تطور الصحافة العربية”، تزعم حلمي إحدى المظاهرات وقدر عدد المشاركين فيها بـ 25 ألفا من المصريين في 31 مارس 1909 ضد إعادة وزارة غالي العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881”.
صدر ضد حلمي حكم بالحبس البسيط 4 شهور مع كفالة قدرها 10 جنيهات، ثم صدر حكم آخر بحبسه ستة أشهر وتعطيل “القطر المصري” وإعدام كل ما يضبط من العدد 37، وحكمت الاستئناف بتأييد الحكم الابتدائي وجعلت الحبس سنة مع الشغل، ليصبح أول مصري يحكم عليه بتهمة العيب في الذات الخديوية.
ويقول الدكتور إبراهيم عبده إن صحيفة حلمي راحت ضحية لقانون المطبوعات، ورأت الحكومة أن المقال المترجم الذي نشر عن “العدل” التركية يمس النظام العام فأمرت بتعطيلها.وبعد تعطيل دام 6 شهور، عادت “القطر المصري” للصدور وكتب “سجين الحرية” أحمد حلمي مقالا من سجنه بعنوان “أنا سجين”، قال فيه : حرية الكتابة والخطابة وعدالة الإرادة والقضاء واحترام الأقوياء لحقوق الضعفاء، هو سبيل الأمم للارتقاء”.
ونشر قصيدة شعرية يدعو فيها الشعب إلى الثورة على الظلم:
يا شعب اكسر قيود الضيم ما قويت.. واخلع رداء هوان طال تذييلا
وانهض وحاسب وخذ حقا ومت شرفا.. فالموت أبقي من التخليد مذلولا
بعدها قرر المعتمد الانجليزي إغلاق الجريدة نهائيا في عام 1910، واجتمع مجلس النظار برئاسة بطرس باشا غالي وأصدر القرار، وصدر العدد الأخير “64” في 7 يناير عام 1910، ويبقى أن نقول أن قانون المطبوعات وتقييد حرية الصحافة كان أحد الأسباب التي دفعت الشاب إبراهيم الورداني لاغتيال رئيس الوزراء بطرس باشا غالي، ضمن أسباب أخرى منها ترأسه لمحكمة دنشواي واعتزامه مد امتياز قناة السويس.
بعد الحكم على حلمي في 29 أبريل 1909، وما أن نطق بالحكم حتى ضجت القاعة بالبكاء والنحيب،فخطب في القاعة: “إيها الإخوان لا تجزعوا وأياكم أن تخافوا وثقوا بأن كل الخطوات والأحكام لا تغير لي ضميرا ولا تبدل لي اعتقادا فمهما فعلوا فلن أتزحزح ولن أفرط، واستودعكم الله”.
فهتفت القاعة باسم الصحفي الحر.
في سنة 1911 وبعد الإفراج عنه صدر له كتاب “السجون المصرية في عهد الاحتلال الإنجليزي”، وصدره بعبارة “سجن الجسم خير من سجن الضمير”، كتب فيه قصته بسجن مصر العمومي وعلاقته بالمأمور وبالسجناء وعقوبة الجلد.. ألخ.، وجاء في مقدمته :” جهادنا في سبيل الحرية متواصل وعملنا لنيلها بلا فاصل فلا يخفينا اضطهاد.. فبعدا لكل حياة بلا حرية لأنها شقاء وبلاء”.
بعد محنة السجن ابتعد صاحبنا عن السياسة، وأسس صحيفة “المشرق” جمع فيها أعمال الأدباء وأصحاب الفكر المستنير، ثم أنشأ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى صحيفة “الزراعة”، وطالب بتأسيس وزارة لـ”الزراعة” ونقابات للفلاحيين.
تزوج حلمي في مطلع حياته وأنجب أربعة أبناء وكانت زوجته وراءه في مراحل حياته المختلفة، ورزق في حياته بحفيده صلاح من أكبر أبنائه بهجت الذي صار مستشارا بمحكمة الاستئناف، أما صلاح فصار الفنان والشاعر الشهير “صلاح جاهين”.
في نهاية حياته استأجر حلمي مزرعة كبيرة تبلغ نحو ألف فدان في مركز شربين بمحافظة الغربية، ومن الزراعة اقتنى أملاكا لا بأس بها، فاستأجر مزرعة أخرى في ضواحي القاهرة وسكن مع حماه في الشارع الذي يحمل اسمه في شبرا، لكنه مني مطلع الثلاثينيات بخسائر فادحة وتدهورت صحته، وتوفيعام 1936.
جرافيكس: عبد الله محمد