يروي القشيري في رسالته الشهيرة في علوم التصوف في خضم دفاعه عن المديح والتغني قصة الحادي (دليل القوافل) الشاب الذي ظل يتغنى أثناء رحلته الطويلة في جوف الصحراء بصوته العذب الندي حتى صرف ناقته عن الشعور بالتعب والإرهاق. ربما كان صوته الشجي ونغماته الرنانه يحملان الناقة مطلقة العنان إلى عوالم أخرى بلا قيظ ولا وهج ولا إرهاق، وما أن توقف الحادي عن الغناء حتى سقطت مغشيٌا عليها.
هكذا يعمل الطرب والغناء في النفوس، والنفوس المعذبة والمهمشة والملتاعة للطرب أحوج، ففي موريتانيا التي ارتبطت تاريخيا في القرن الخامس الهجري بالمجال الجغرافي الممتد من بلاد شنقيط (موريتانيا) إلى المغرب المجاور والأندلس في إسبانيا، يبدو الغناء والطرب وإنشاد المديح الديني حلا أمثل لفئات مجتمعية لا تزال تتلمس ما يخفف عنها وطأة الحياة.
وإذا كان شعر المديح النبوي يعد ملمحا من ملامح الثقافة الدينية في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ الإسلامي، والتي شهدت قيام عدة دول من بينها دولة المرابطين والموحدين، فقد برز الإهتمام بالمديح النبوي حينذاك، كغرض من أغراض الشعر وتعبير عن روح العصر التي غلب عليها الطابع الصوفي في القرن الثامن الهجري، وهو اهتمام لم تكن موريتانيا السمراء بمنأى عنه.
ورغم أن المديح النبوي ارتبط قديما بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف.. إلا انه في موريتانيا سيعكس لاحقا مظهرا يمزج بين الديني والتراثي.. للتعبير عن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضمن طقوس متعددة يتداخل فيها البعد الصوفي بالعادات والتقاليد، متنفسا للبوح عن الأحاسيس والآلام لدى شرائح الأرقاء والمهمشين في المجتمع.
أنين وحنين
يشتهر عرب موريتانيا السمر بـ”الحراطين” وهم فئة مجتمعية نمت خلال القرنين الماضيين، وتعد ديمغرافيا مكونا أصيلا من مكونات ثلاث دول هي موريتانيا ومالي والسنغال. وينقسم الحراطين إلى فئتين رئيسيتين، إحداهما خضعت للرق منذ القدم، ولا تزال تعاني من التهميش واستغلال باقي فئات المجتمع لها على شكل عبودية مباشرة وغير مباشرة، والأخرى معروفة بنشاطاتها التقليدية في الفلاحة والحرفية.
ومثل أداء هذه الطقوس لدى شرائح الأرقاء الحراطين والمهمشين، خصوصا من كانوا بحكم مهنتهم في العمل والرعي يلجأون إلى المديح النبوي في الليل بعد يوم طويل من العمل المضني، ملاذا للراحة والترويح عن النفس، فضلا عن التعبير عما بداخلهم من مشاعر محبة وحنين للنبي (ص).
ربما طريقة أدائهم، التي ظلت تعكس نبرة يغلب عليها الاشتياق والحزن، خير دليل على أن ظاهرة المدح عند الحراطين، الأرقاء السابقين، لم تكن ظاهرة دينية فحسب، وإنما كانت دائما الملاذ الوجداني الذي يرمز إلى حلم مكتوم لشريحة ظلمها مجتمعها أو لعله يٌقرأ في السياق الديني المتأثر بطقوس للشيعة أو الطرق الصوفية التي يشير بعض الباحثين إلى أنها ظهرت أصلا للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
وإجمالا يمثل “المدح” كما يلفظ في موريتانيا، حالة تراثية دينية وجدانية رائعة، في مجتمع (العرب والزوايا) وهو مجتمع مغلق تختلف طقوسه، وخصوصا لدى العرب، حيث ينحصر أداؤه على النساء ليلة الجمعة من كل أسبوع.
ويختص الحراطين بـ”المدح”، ويتخذون مكانهم في أطراف الحي أو القرية، حيث يتوافد عليهم أهل القرية لحضور سهرات المدح التي لا تنتهي عادة إلا قبل الفجر قليلا. ففي “آدوابه”، وهي تجمعات سكانية للعبيد السابقين، يحافظ “الحراطين” حتى اليوم على تقاليدهم في الإنشاد، حيث يحفظ المداحون قصائد المدح عن طريق السماع ويلقنونها لأبنائهم خلال حلقات الإنشاد الليلية وفي مناسبة عيد المولد النبوي الشريف كل عام.
ويعتبر المدح من أبرز ملامح ثقافة الحراطين، ويتجلى في شغفهم به كممارسة ترقى إلى حالة من التعبد، عبر الأدعية والشفاعة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي تمنحهم الطمانينة والراحة النفسية.
ليالي الأنس
لا يمكن فصل المدح كحالة دينية عن الجانب الوجداني الذي يسعى للإمتاع والمؤانسة، على حد تعبير أبوحيان التوحيدي، فحلقات المدح التي يتوافد عليها الجمهور بشكل عفوي كل ليلة كثيرا ما يكون الدافع إلى حضورها، فضلا عن المشاركة في الإنشاد، حب الإمتاع والتسلية، كما لا يتوانى البعض عن إبراز موهبته في الرقص على إيقاع المدائح، كجزء لا يتجزء من الإحساس بالطرب والترويح عن النفس.
إحياء تراث الأجداد
شكّل الإهتمام المتزايد بالتراث في السنوات الأخيرة فرصة للعديد من الجهات والمكونات الإجتماعية للإعتناء بتراثهم المحلي، ومن بين هؤلاء شريحة الحراطين التي بدأت تنشط كجمعيات ثقافية أو مبادرات على هامش مهرجان المدن القديمة، وهو مهرجان ثراثي خاص بالمدن الأثرية في البلاد.
إلى جانب ذلك نشأت مبادرات لإحياء هذا التراث، كفن سماعي له موسيقاه الخاصة و آلاته الفنية التي تترجم ما يتغنى به المداحون من مدائح تمزج عادة بين السرد التاريخي للغزوات ومعجزات النبي محمد (ص) و الحنين إليه والشفاعة به يوم القيامة.
ويعد مهرجان المديح النبوي الذي يعقد في رمضان من كل عام بالعاصمة الموريتانية نواكشوط أحد أبرز المهرجانات التي توثق لفن المديح النبوي الذي ينطلق من رحم معاناة التهميش والتجني الاجتماعي لفئة العبيد الحراطين في موريتانيا.