شهد المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة تطورات عميقة تشكلت بشكل تلقائي غير مخطط له في الكثير من الأحيان. يفسر ذلك حالة الشعور بالصدمة وعدم القدرة على التعامل مع الأزمات الناتجة عن هذا التغير العشوائي غير معروف النتائج.
من النماذج الواضحة هنا ما وصل إليه العنف الاجتماعي والإرهاب السياسي خاصة في المجتمعات القبلية الحدودية، حيث بدت لنا هذه المجتمعات وكأنها مجتمعات غريبة لم نكن نعرفها أو أنها قد تغيرت بعمق وبسرعة دون متابعة منا لما طرأ عليها من تحولات أعادت صياغة صورتها القديمة.
من بين الدراسات المصرية المحدودة التي حاولت فهم تلك المجتمعات تميزت دراسات الأنثروبولوجي الراحل أحمد أبوزيد. ولكن حتى دراسات أبوزيد نفسه، التي يرجع أقدمها إلى سنوات الخمسينيات وأحدثها إلى التسعينيات، لم تعد بياناتها الكمية ولا توصيفاتها الكيفية قادرة على الصمود أمام موجة التغير العميق غير المحسوس التي طرأت على مجتمعات سيناء والصحراء الغربية وحتى الصعيد.
تكمن القيمة الأكبر لخبرة أبوزيد الاستثنائية في منهجه المتفرد في فهم تلك المجتمعات القبلية على الحدود، وهو منهج يقوم على المعايشة الكاملة للأهالي لفترة من الزمن، وهى فترة ضرورية لنشوء علاقة إنسانية حقيقة بين الباحث والأهالي، ما يساعده استكناه القيم والتقاليد الحاكمة لتلك المجتمعات والنفاذ إلى جوهرها الذي لا يتبدى للباحث الاجتماعي التقليدي الذي يكتفي بجمع المعلومات عن الأهالي في لقاءات لحظية عابرة يتوجس خلالها الأهالي من هذا الزائر الغريب الذي هبط علينا فجأة، وهو إما يبغي حصر ممتلكاتنا المحدودة من دواب أو ممتلكات منزلية لصالح الضرائب أو لحرماننا من أى دعم اجتماعي نتلقاه من الدولة، أو أنه موفد من “الحكومة” أى من الأمن للتحري عن معلومات في حالة وقوع جريمة ثأر كما يتكرر في قرى الصعيد أو في إطار مواجهة إرهاب الجماعات كما في بعض مناطق سيناء في الوقت الراهن.
في كل الأحول ينشط خيال الأهالي في استنباط هدف غير معلن للباحث قبل أن يلقون على مسامعه ما يعتقدون أنه يتوقع سماعه بغض النظر عن الحقيقة. تعني هذه الآلية ببساطة أن المعلومات الأساسية التي ستقوم عليها الكثير من دراساتنا الاجتماعية – وفق هذا المنهج- هى معلومات “مضروبة” من المنبع وبالتالي لا يمكن لصانع القرار التعويل عليها في أى خطط مستقبلية لتنمية هذه المجتمعات أو للتصدى للمشكلات والمخاطر التي تواجه استقرارها.
مسجد السيد البدوي بمدينة طنطا
منذ أكثر من ربع قرن تقريبا أتيحت لكاتب هذه السطور فرصة الاقتراب من هذا العالِم الكبير في واحد من أكثر بحوثه الميدانية أهمية وشغفا وهو بحث “رؤى العالم عند المصريين”. كانت فرصة استثنائية لاستخلاص منهجه الخاص في سبر أغوار ثقافة الناس العاديين خلال إقامتنا كفريق بصفة دائمة لأكثر من عام كامل في منزل ريفي جميل وبسيط وسط الحقول بقرية تسمى “نواج” في قلب الدلتا على بعد ثمانية كيلومترات من مدينة طنطا، لاستكشاف “رؤى العالم” لدى الأهالي التي يختلط فيها الدين والتصوف والخرافة والسحر بخيال شعبي متوهج يتحدى إيقاع حياتهم الرتيبة، مع مقارنتها برؤى أهالى أحد أحياء طنطا نفسها وهو حي “ستوتة” التجاري الشعبي حيث مقام السيد البدوي وكنيسة مارجرجس، وحيث تختلط مكونات الثقافة الريفية بتلك المكونات المدينية الأكثر براجماتية وعقلانية.
أيا كان حظ الرؤية الكلية من الدين والعقلانية والبراجماتية والسحر والخرافة والأسطورة، وأيا كان الوزن النسبي لأي من هذه العناصر، ينطلق أبو زيد من مفهوم لـ”رؤية العالم” بالمعنى الواسع الذي عرفه الفكر الألماني على يد الفيلسوف فلهلم دلتاى كرؤية كونية كلية شاملة تمثل كل المسلمات والأفكار لدى الأهالي عن طبيعة ذواتهم – جسدا وروحا- وطبيعة الوجود الواقعي المحسوس من حولهم وما وراء هذا الوجود؛ عالم الغيب والعوالم الخفية التى يعتقدون بوجودها، أي من هذه العوالم أكثر حضورا فى الرؤية؟ وأيها يحتل مركز الرؤية وأيها يقبع فى الهامش؟ وكيف يؤثر أي منها فى الآخر؟…إلخ.
منهجيا، لفت نظري أن أكثر ما كان يشغل بال الأستاذ ويؤكد عليه للباحثين الشبان ضرورة الوعى بأن المطلوب هو معرفة رؤية العالم من وجهة نظر أعضاء المجتمع أنفسهم. وتفسير ذلك أن الأستاذ لم يكن يميل إلى ذلك الأسلوب الشائع في الدراسات الاجماعية حيث عادة ما تتدخل ذاتية الباحث المتضخمة وخلفيته النظرية بل والأيديولوجية لابتداع طريقة معينة في انتقاء المعلومات التى يجمعها من على شفاه الناس وعرضها بطريقة تبرز الإطار التفسيري الذي يتحيز هو إليه، ما ينتهي بالكثير من الباحثين إلى تكوين صورة مشوهة عن المجتمع الذي يدرسونه.
كنيسة مارجرجس بمدينة طنطا
في المقابل ينطلق أبوزيد من موقف منهجى بل وفلسفى مغاير يمكن وصفه “بالتواضع الناضج” أمام تصورات الناس العاديين ورؤاهم الثرية والمتنوعة التي تتجاوز بالضرورة معرفة الباحث المحدودة، مهما بلغ عمق خلفيته المعرفية والنظرية، مهما بدت أكثر تنظيما من رؤى الأهالي، وبالتالي يتعين على الباحث أن يكبح جماح أفكاره وألا يتدخل بالإنتقاء من كلام المبحوث أو حتى ترتيبه وتنظيمه وبالتالي تأويله بشكل متعسف ضمن قوالب وأطر معروفة سابقة التجهيز.
كانت التقاليد الأنثروبولوجية فى الغرب قد عرفت أسلوب “الفهم من الداخل” مبكرا، وهو مبدأ منهجى يؤكد على ضرورة التغلغل في أذهان الشعوب الأخري بهدف سبر الأغوار الحقيقية لثقافاتها مهما بدت غريبة وغير مألوفة بالنسبة للباحث الأجنبى.
ينقل أبوزيد نفس المعنى إلى الباحث الوطني الذي يفترض الكثيرون أنه ملم بالضرورة بثقافة شعبه، وهو افتراض كان أبوزيد يرفضه لإدراكه العميق لثراء وتعدد رؤى العالم لدى الشعب الواحد بفئاته الاجتماعية المختلفة ومناطقه الجغرافية المتنوعة. ولهذا الموقف دلالة منهجية وثقافية هامة، فالناس هنا، أي المبحوثين، تعود إليهم مكانتهم العالية باعتبارهم حملة التراث الثقافي المتنوع للأمة وحكمتها الموروثة.
ويترتب على هذا الموقف المنهجى تغير جوهرى في خصائص الباحث عند أبوزيد، فتصبح أهم مواهبه اتساع الأفق والمرونة والطلاقة الفكرية، بحيث يكون قادرا على تقبل منظور رؤية الأهالي مهما كانت، أما السمة الثانية فهى أن يكون محتفظا بقدرته الطفولية على الاندهاش، شغوفا مولعا بالإنصات بتفهم وانبهار بالبسيط المختلف على ألسنة الناس، وتفاعله معه تساؤلا واستكمالا، وهو ما يجعل عمله أقرب إلى حالة وسط بين العلم والفن، فالمبحوث، الذي يحتل مقعد الحكيم في هذه الجلسات الحوارية الحميمة، لن يبوح بكامل مكنون رؤاه إلا إذا لمس صدق الباحث ومشاركته له رغبته في امتلاك رؤية منظمة للعالم، أيا كان نظامها، عقلانيا أو غير عقلانى، واقعيا أو يختلط فيه الواقع بالخرافة والأسطورة، وهنا تتحول العلاقة بين الطرفين من علاقة عمل جافة إلى علاقة إنسانية حقيقية ( كانت بعض الجلسات الحوارية الممتعة تمتد حتى الصباح وسط الحقول أو على مقهى شعبي حول أقداح الشاي).
كان أبوزيد يعرف دائما أن هدفه هو مجرد الاقتراب من “حقيقة” المجتمعات التي يدرسها، والأهم أنه كان يعرف أيضا أنه لن يدركها كاملة أبدا. هذه المبادئ مجتمعة هى التي صاغت طريقة أحمد أبوزيد المتفردة التي شكلت واحدا من أهم وأنجع الطرق في فهم تحولات المجتمع المصري خاصة مجتمعاتنا الحدودية وتنوعاتها الثرية، وهو تفرد يليق بمثقف كبير كان مبدؤه طوال حياته العلمية ومسيرته الثقافية التواضع أمام حكمة البشر.