تتجه أنظار عالمنا العربي – في مرحلة ما بعد القاعدة وداعش- إلى اكتشاف أنماط من التدين التي لا تتعارض ومنطق الحداثة، بل تكون بمثابة قوة دافعة لانبعاث جديد للمسلم المستنير القادر على الإسهام والإنجاز الحضاري دون أن يكون ذلك مشروطا بتخليه عن ذلك المعين الروحي الذي ظل يشكل وجدانه عبر قرون.
وإذا كان البعض يستدعي في التصوف بعض مظاهره السلبية حيث العيش في ظل الخرافة الدينية، والمغالاة، والزهد المفٌضي إلى حرمان وفقر يكون بمثابة تيمة، ومظهر من مظاهر التدين الشعبوي، فإن البعض الآخر يرى في التصوف بديلًا أكثر قدرة على التناغم مع مفاهيم حداثية وديمقراطية كالتعددية والتسامح والتعايش واحترام الآخر على تعدد مستوياته.
وإذ يحلو للبعض التسويق لنموذج الإسلام التركي باعتباره أبرز الدلائل على قدرة الإسلام الصوفي للتناغم مع مظاهر الحياة المدنية الحديثة، وإنتاج نموذج حضاري يستوعب قيم الديمقراطية ويتفاعل معها دون صدام أو إقصاء على عكس ما جرى العرف في ممارسات التيارات الدينية ذات المرجعيات المحافظة، فإن ثمة نماذج أخرى للتصوف الحضاري الذي يعلي من قيمة العمل والكفاح والمشاركة في الحياة.
فالسنغال ذات الأغلبية المسلمة، والتي يبلغ تعداد المسلمون بها نحو 95% عرفت الإسلام عن طريق المتصوفة، وحافظ التصوف على وجوده بها بحيث تجد من الصعب وجود مواطن سنغالي لا ينتمي لطريقة من الطرق الصوفية الأربع المشتهرة بها، التيجانية والقادرية وهما طريقتان وفدتا إلى السنغال من خلال بلدان المغرب وموريتانيا تنسب الأولى للإمام أحمد التيجاني (أبو العباس) المولود سنة 1737م في عين ماضي بالجزائر والمتوفى سنة 1815 في فاس بالمغرب، وينتمي إليها نحو 51% من السنغاليين، بينما تعود الثانية إلى ساكن بغداد الإمام عبدالقادر الجيلاني، والموريدية واللايينية، وهما طريقتان محليتان لا يوجد في سلسلة مشايخها من هم من خارج السنغال، فثمة آباء أربع لمسلمي السنغال، الشيخ عمر تال الفوتي، والحاج مالك سي، والشيخ أحمدو بامبا إمباكي، والشيخ إبراهيم انياس.. إنهم آباء الصوفية في مجتمع تتجاوز فيه نسبة الإسلام التسعين بالمائة.
لعب التصوف في السنغال دورا هاما في التصدي للأفكار المتشددة، والتوجهات الدينية السلفية المحافظة التي أفرزت العديد من الجماعات المتطرفة، بل استطاع التصوف أن يصنع نخبة سياسية تمزج ما بين التوجه الروحي ومدنية وعلمانية التوجه السياسي، وهو ما أثمر واحدة من أهم التجارب الديمقراطية الحقيقية في غرب افريقيا.
وفي محاولة للإجابة عن سؤالنا عن السبب في ندرة الحوادث الإرهابية في بلد كالسنغال، وندرة العناصر الإجرامية الإرهابية التي تصدرها إلى مجتمعاتنا العربية المنكوبة، أكد الباحث في الحركات الإسلامية (أحمد بان) لـ”أصوات” أن “السنغال عرفت طريقها الى طبعة من الإسلام الأقرب للتصوف الذى هو فى حقيقته حالة من حالات الإمتلاء الروحى والقدرة على ممارسة أقصى قدر من التسامح مع العالم، وهو بمثابة المصل الأهم فى مكافحة التطرف والإرهاب، فكل محاولة لمكافحة التطرف والإرهاب لاتخرج من بوابة التسامح لن يكتب لها النجاح”. ويتابع بان: “التصوف فى تقديرى هو ما عصم السنغال من التطرف والإرهاب، فبناء الأرواح يعصمها من الإنجرار للإرهاب او التطرف”
الكاتب والباحث: أحمد بان
ثمة شكل من أشكال التحالف القوي يجري ما بين رجال الدولة والسياسة الذين ينتمون في الأغلب لهذه الطريقة أو تلك، وما بين مشايخ الطرق الذين يدركون حجم نفوذهم وقدرتهم على التأثير في مسار أي عملية انتخابية وسط تجربة ديمقراطية حقيقية تعيشها السنغال، وما بين بعض القيادات الاقتصادية الأبرز في المجتمع السنغالي.
كما يلعب مشايخ الطرق الصوفية في السنغال دورا مجتمعيا بالغ الأهمية، إذ على الرغم من أن جلهم يمتلكون اقطاعات زراعية كبيرة إلا أنهم يقومون بتسخير تلك الاقطاعات في خدمة القضايا المجتمعية كالفقر والبطالة، وخلق مجتمع انتاجي ايجابي من المريدين.
ففي الشرق من العاصمة السنغالية وبالتحديد بمدينة “طوبي” يعمل أتباع الطريقة الصوفية المريدية بإخلاص وخشوع من دون مقابل في مزارع الفستق الشهيرة بخلكوم التي تعد بمثابة وقف خيري ينفق على جهود إعانة الفقراء والتربية والتعليم، وتعد مزارع خلكوم للفستق من أكبر مراكز التربية والتعليم في السنغال، إذ تضم خمسة عشر مركزا لتربية وتعليم الأطفال بشكل مجاني، ومتطلبات هذه المراكز الخمسة عشر وما فيها من آلاف الأطفال والشباب تفوق أحيانا المحصول الزراعي لخلكوم.
استطاع مؤسس الطريقة المريدية، تأسست عام 1893 علـى يد الشيخ أحمدو بمب داخل أوساط ريفية وفلاحية في مدينة طوبى، إقناع مريدية بأن العمل والكفاح والإنتاج هما ميادين الجهاد الحقيقية للمسلم، على الرغم من خوضه العديد من الصراعات مع المحتل الفرنسي التي كثيرا ما انتهت بنفيه خارج البلاد. وقد استمرت هذه المبادىء كأساس عمل لورثة طريقته الذين لا يزالون يعولون على تطوع المريدين في انتاج وزراعة الفستق والفول السوداني في اقطاعات الطريقة للمساهمة المجتمعية في مواجهة الفقر والبطالة، وهو ما مكن المريدين من لعب دور هام في اقتصاد السنغال، حتى أن جل كبار رجال الأعمال في السنغال من أبناء الطريقة المريدية، مثل أنجوغا كيبي، جيل أمباي، سرين أمبوب، شيخ عمار، شيخ سي.
صورة تاريخية لإحدى تعاونيات زراعة الفول السوداني التابعة للطريقة المريدية
النفوذ المالي والاقتصادي لأتباع ومشايخ الطريقة المريدية، التي ينتمي إليها نحو 3.5 مليون نسمة أي ما يعادل 33% من مسلمي السنغال، ضمن للطريقة المريدية وشيخها نفوذ هام في المعادلة السياسية السنغالية، يصعب معه تجاهل حجم تأثير الطريقة في أي سباق انتخابي. وعلى الرغم من علمانية الدولة وفق الدستور السنغالي إلا أن هذا النفوذ السياسي والاقتصادي لمجتمع الطرق والمشايخ (الزعماء الروحانيين) يحد من التطرف في تبني المبادىء العلمانية على الطريقة الفرنسية، وهي العلمانية الأكثر تطرفا كما يؤكد المراقبون.