في الفصول التالية من كتابهThe Written World: The Power of Stories to Shape People, History, Civilization (العالم المكتوب: قدرة القصص على تشكيل الشعوب والتاريخ والحضارات)، يواصل مارتن بوكنر سبر أغوار التاريخ ليبين الدور المحوري الذي قام به الأدب في بناء الحضارات وتشكيل الثقافات وتوجيه مسار تاريخ العالم.
بعد الاستعراض العميق لتأثير إلياذة هوميروس وملحمة جلجامش على تاريخ الغرب والشرق، يؤكد بوكنر أن السرديات الملحمية الكبرى عن سير الملوك وفتوحاتهم لا تمثل النوع الأدبي الوحيد الذي اضطلع بهذا الدور.
فالأدب الصيني، على سبيل المثال، يقوم على “كتاب الأغاني”، وهو مجموعة من القصائد التي قد تبدو بسيطة، لكنها – برغم ذلك – تثير منذ كتابتها تأويلات ونظريات تتسم بالعمق والتنوع.
احتل الشعر مكانة مرموقة في الصين القديمة، حتى أن نظام الترقي في السلم الوظيفي داخل الجهاز الحكومي المتشعب كان يقضي باجتياز الموظف لاختبار إمبراطوري معقد يتطلب دراية عميقة بالشعر، وكان يشترط في المسئولين الحكوميين رفيعي المستوى القدرة على ارتجال الشعر.
امتدت هذه المكانة من الصين إلى منطقة شرق آسيا بأكملها، وغدا الشعر علامة على الهوية؛ لذا، فقد أسست اليابان مملكتها الشعرية الخاصة والخالصة من أجل تحقيق استقلالها السياسي عن الإمبراطورية الصينية.
دخل الشعر أيضا في نسيج أولى وأعظم روايات الأدب العالمي التي خرجت من رحم هذه البقعة من العالم. فقد اضطرت موراساكي شيكيبو، مؤلفة رواية “قصة جنجي”، إلى أن تعلم نفسها الشعر الصيني عن طريق استراق السمع على درس أخيها، حيث لم يكن مسموحا للنساء آنذاك تعلم الآداب الصينية.
وبعد أن غدت وصيفة في البلاط الإمبراطوري الياباني، استغلت شيكيبو معرفتها بالأدب لترسم صورة عامة عن الحياة في البلاط، مفعمة برؤى سيكولوجية عميقة، في شكل رواية تزيد على 1000 صفحة. ولكي تمنح روايتها مكانة أدبية سامقة، فقد ضمنتها ما يقرب من800 قصيدة.
ومع انتشار التعليم الجماهيري وتصاعد المد الثقافي في كثير من بقاع العالم، ضاعفت التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها ظهور الورق والطباعة، من قدرة القصص المكتوبة على الانتشار والتأثير. وبرزت طوائف جديدة من القراء لم تكن موجودة من قبل؛ وهو ما دفع بالأدباء إلى مضاعفة إنتاجهم لإشباع نهم جماهيرهم المطردة.
كان هذا التطور ملموسا في العالم العربي، الذي أخذ سر صناعة الورق عن الصين، وأضاف إليها. ولأول مرة تحولت القصص الشفهية إلى قصص مكتوبة، وتم جمعها على شكل كتب، كان من أبرزها كتاب “ألف ليلة وليلة”.
انطوى كتاب “ألف ليلة وليلة” على قدر من التنوع فاق الملاحم الكلاسيكية القديمة، وهو ما جعله على درجة عالية من التشويق والإثارة.
في الجانب الآخر من العالم قرر الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري صياغة التصور المسيحي للجحيم والمَطهر والجنة في صورة شعرية، فكتب ملحمته الشعرية الفذة “الكوميديا الإلهية”.
لم يكتب دانتي ملحمته باللغة اللاتينية كما كان معهودا في الأعمال الأدبية الكبرى، وإنما كتبها باللهجة المحلية لمدينة توسكانا، وهو ما تمخض عنه ظهور اللغة الإيطالية التي نعرفها اليوم.
أما التغير الأهم في مسيرة الأدب فقد وقع في النصف الأول من القرن الخامس عشر مع ظهور الطباعة في منطقة شمال أوربا على يد جوهانس جوتنبرج (الذي استلهم أيضا النموذج التقني الصيني)، وهو ما بشر بعصر الإنتاج الضخم والتثقيف الجماهيري الذي نعيشه اليوم.
في هذا العصر تربع فن الرواية – برغم حداثته – على عرش الأدب (استمد هذا الفن اسمه في اللغة اللإنجليزية ’Novel‘ من كلمة ’Novelty‘، التي تعني ’الجدة‘ أو ’الحداثة‘، برغم وجود روائيين مهمين سابقين، مثل موراساكي شيكيبو).
لم يكن فن الرواية مثقلا بالنظريات البالية التي أثقلت كاهل أنواع الأدب الأخرى القديمة، ومن ثم فقد خلق هذا الفن الجديد جيلا جديدا من الكُتاب والقراء، خاصة من النساء الذين أفادوا من هذه المرونة للاشتباك مع قضايا المجتمعات الحديثة الأكثر إلحاحا.
في الوقت ذاته، أفادت الدول الوليدة من فن الرواية للتأكيد على استقلالها، على غرار ما حدث في أمريكا اللاتينية إبان ستينيات القرن الماضي، مع ظهور رواية “مائة عام من العزلة”، للروائي الكولومبي جابريل جارسيا ماركيز، التي تتبعت عدة أجيال من أجل رسم معالم ثقافة واضحة لشعوب هذه القارة. لقد كان الاستقلال السياسي يتطلب استقلالا ثقافيا، وكان فن الرواية هو الأداة المثلى لتحقيق كلا الاستقلالين.
وبينما أفاد هؤلاء الكُتاب، وكثيرون غيرهم، من حقبة محو الأمية الجماهيرية وانتشار التعليم وتصاعد المد الثقافي، ساعدت الطباعة أيضا النظم الاستبدادية، مثل النظام النازي في ألمانيا والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، على فرض رقابة محكمة على الأعمال الأدبية، وهو ما أدى إلى تطور أنظمة طباعة سرية لتفادي الرقابة.
ويخلص بوكنر إلى أن العالم اليوم يشهد ثورة أخرى في تكنولوجيا الكتابة، لا تقل أهمية عن الثورة التي أحدثها اختراع الورق والطباعة في الصين، أو إعادة اختراع الطباعة في أوربا. فالإنترنت يغير عاداتنا في القراءة والكتابة، ويفتح آفاقا جديدة لنشر الآداب وتداولها، فضلا عن أنه يضيف فئات جديدة من القرًاء لم تكن موجودة من قبل. ومن ثم، فإننا نقف على شفا عصر أدبي جديد سيغير حتما ملامح العالم المكتوب الذي نعرفه.
بوكنر يتحدث إلى برنامج Rising Up with Sonali عن الكتاب