لا ينبغي أن ننسى المشهد الرائع الذي سجله المصريون في مواجهة الإرهاب في الشوارع المحيطة بكنيسة مارمينا بحلوان، عشية الاحتفال بقداس رأس السنة الميلادية نهاية العام الماضي، والأهم ألا تنسينا درامية المشهد الدرس الأساسي المستخلص من مسلسل العمليات الإرهابية على مدى السنوات الأخيرة: الإرهاب يتم ابتلاعه شعبيا في القلب حيث التجانس الشعبي، بينما يكون الأمر أكثر صعوبة في الأطراف.
حادث مارمينا بحلوان ديسمبر 2017
لماذا فشلنا حتى الآن في توفير المناخ المطلوب لاستيعاب الثقافات الفرعية في المناطق الحدودية ضمن “البوتقة المصرية”؟.
منذ أكثر من عام فوجئنا باحتجاجات للنوبيين في الجنوب وصلت إلى حد قطع الطرق وخطوط السكك الحديدية، بعدها صدمنا بعملية إرهابية مروعة في الواحات غربا، وأعقبتها صدمة عملية مسجد الروضة في بئر العبد شمالي سيناء.
لا يطمح هذا المقال لتحليل أي من هذه الأحداث الفاجعة التي تتالت بمعدلات غير مسبوقة على الحدود، لكنه يحاول أن يطرح على النخبة الفكرية والبحثية في بلدنا عددًا من الأسئلة الموجعة: لماذا تفتقر المكتبة المصرية لدراسات معمقة عن طبيعة المجتمعات الحدودية، خاصة البؤر الهشة فيها التي ثبت أنها تعج بشباب جاهز لتقبل أفكار دينية أو سياسية منحرفة تجعله في حالة عداء كامل مع المجتمع ولا يتورع عن سفك دماء مخالفيه في الرأي والرؤية؟.
وذلك على الرغم من ترسانة الرسائل والبحوث العلمية ومئات الكتب والمقالات واللقاءات الإعلامية مع الخبراء التي تصدعنا ليل نهار؟.
لماذا تجد الجماعات المضادة للدولة والمجتمع بيئة مواتية لأفكارها في تلك المجتمعات الطرفية الحدودية أكثر من غيرها في الآونة الأخيرة بالذات؟ لماذا فشلت مناهجنا الاجتماعية التقليدية المعتادة في تفهم التطورات الكثيفة والمعقدة التي تراكمت لتعيد صياغة الشخصية المصرية وتنوعاتها الفرعية؟ ولماذا لم نسمع أى صفارات إنذار أو تحذيرات مسبقة من احتمال ظهور هذا النمط الجديد من إرهاب الأطراف؟.
الأهم من هذه الأحداث المروعة على الحدود حالة فقدان الشعور بالأزمة المعرفية والمجتمعية القابعة خلفها.
حادث مسجد الروضة بشمال سيناء نوفمبر 2017
في العام 1983 صدم المجتمع الأمريكي بتقرير أصدرته اللجنة الوطنية للتميز التربوي تحت عنوان “أمة في خطر” كان لتوصياته التربوية والمجتمعية دور كبير في إصلاح التعليم الأمريكي ما أسهم في طفرة النمو غير المسبوقة آنذاك، وفي العام 2002 صدم المجتمع الفرنسي بالصعود غير المتوقع لزعيم اليمين الفرنسي الأكثر عداء للأجانب المهاجرين لفرنسا جان ماري لوبن بعد أن أوصلته أصوات الفرنسيين للدور الثاني للانتخابات الرئاسية أمام جاك شيراك، ما استدعى وضع مسألة معالجة العنصرية والعمل على إدماج المهاجرين على رأس أولويات السياسة الفرنسية. وفي أعقاب صدمة الفوز غير المتوقع لترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، بدأت على الفور موجة مراجعة لتوجهات الأمريكيين نحو اليمين المتطرف، والأهم محاولة الإجابة على السؤال: لماذا فشلت كافة استطلاعات الرأي في توقع ما حدث، ولماذا بدت الدراسات الاجتماعية والسياسية الأمريكية وكأنها تعاني مشكلة منهجية بنيوية في التنبؤ بتوجهات الناس وميولهم؟.
لا يجد صانع القرار أو الباحث أو الإعلامي ما يشفي الغليل من الدراسات الميدانية المعمقة التي تقوم بها فرق بحثية كبيرة عما وصلت إليه الأوضاع المادية والاتجاهات والمعتقدات الدينية والسياسية لدى الأهالي في المجتمعات الحدودية في مصر، وباستثناءات محدودة أنجزها سعيد المصري خلال السنوات الأخيرة، لا يجد هؤلاء مفرًا من العودة لاجترار ما كان قد أنجزه الأنثروبولوجي المصري الراحل أحمد أبو زيد منذ خمسينيات القرن الماضي.
في العام 1955 قضى أبو زيد ثلاثة عشر شهرًا كاملة بين أهالي الواحات الخارجة – على عادة الأنثروبولوجيين – لإنجاز دراسته الميدانية عن قبائلها، قبل أن ينتقل لدراسة جماعات البدو الرحل في الصحراء الغربية عموما عام 1959.
أهالي الواحات
وفي العام 1962 أنجز دراسته المرجعية عن منظومة الثأر بين القبائل في قرية بني سميع مركز أبوتيج في الصعيد.
خلال عقود السبعينيات والثمانينيات توقفت هذه النوعية من الدراسات الميدانية المعمقة لسبب أو لآخر، لكن أبو زيد عاد لنشاطه مرة أخري مع بداية التسعينيات، حيث قام بإجراء أربع دراسات موسعة عن مجتمعات شمال سيناء ثم دراسة جديدة عن مجتمع الواحات البحرية، قبل أن تتوقف هذه النوعية من الدراسات التي سبرت أغوار تلك المجتمعات البعيدة عن المركز القاهري ومحيطه القريب في الدلتا حتى مدن القناة غربا وحتى الإسكندرية والساحل الشمالي غربا.
لم تقتصر جهود الراحل أبوزيد على دراسة المجتمعات الحدودية داخل مصر، بل تجاوزتها لدراسة العديد من مجتمعات المحيط الحيوي لمصر خلال سنوات المد القومي الناصري، حيث أجرى دراسة مهمة عام 1960قبيل الوحدة المصرية-السورية عن العلويين في سوريا، أعقبتها دراسة واسعة عن المجتمعات الصحراوية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بداية من إيران شرقا حتى المغرب غربا مرورا بالمملكة السعودية والعراق والأردن وليبيا والجزائر، ثم دراسة أخرى لقبائل السودان وأوغندا كينيا ونيجيريا وسيراليون عام 1962.
وكما باغتنا إرهاب الأطراف في الداخل نتيجة عدم ملاحقة دراساتنا للمستجدات التي طرأت على أوضاعها وأوضاع القاطنين فيها، كان التناحر القبلي والمذهبي قد سبق خيالنا الاجتماعي والسياسي ليباغتنا أيضا في دول مجاورة كنا نحرص على دراسة مجتمعاتها ليس فقط منذ سنوات المد القومي بل ربما منذ بدايات تكون الدولة المصرية زمن أجدادنا الفراعنة.
حادث مسجد الروضة شمال سيناء
من أين يأتي هذا الشعور الزائف بالاطمئنان على مستقبل مصر مع التطور النوعي المتلاحق في الظاهرة الإرهابية التي يبدو أنها تتمترس الآن في ملاذات مجتمعية آمنة في الأطراف؟.. وكيف ينام خبراء المجتمع المصري قريري الأعين دون أدنى شعور بالمسؤولية ودون إدراك لنقص الدراسات والخلل المنهجي الخطير إزاء حالة الفشل والانكشاف الصارخ للعلوم الاجتماعية والسياسية في مصر في الآونة الأخيرة؟.