إطلالته كانت الأولى لأستاذ جامعي بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس، للدفعة 1973/ 1977، وكانت المحاضرة الأولى بمقرر “علم النفس العام” وكان الغرس الأول للتوجهات الإيجابية لتخصص يتلمس طريقه – حينئذ – إلى قناعات المجتمع المصري، فى عقول ونفوس شباب تخيروه من بين تخصصات متفاوتة الجاذبية الأكاديمية والمهنية.
شكّل الانطباع الأول عن هذا المحاضر ذو السمت الوقور، واللغة الرصينة، والتعبير الدقيق، والفكر المنظم ، والحنو الطاغِ، صورة ذهنية شديدة الوضاءة والجاذبية. كان يرتدي – فيما أذكر – معطفاً رمادياً داكناً، وأمضى معظم المحاضرة الأولى تلك متحدثاً لبقاً، متحركاً بخطوات وقورة على خشبة المدرج ( أ )، فكان النموذج الأول الذى راودتنا أحلامنا مضاهاته، والوقوف مكانه فى قادم السنين.
ويا لدهشتنا طلاب تلك الدفعة، حين فوجئنا – وبعد أسابيع قليلة من بدء الدراسة – بإعلان مناقشة رسالة الدكتوراة المقدمة من الباحث “قدري حفني” عن “الشخصية الاسرائيلية الاشكنازيمية”. كان ذلك بالطبع فى أعقاب انتصارات اكتوبر المجيدة، وكانت بمثابة القرينة الامبريقية للجبن الفاضح للجنود الاسرائيليين، والذين هم نتاج تنشئة الكيبوتز، التى وصفها أستاذنا فيما نوقش فيه، بأنها كانت تأوي هؤلاء الأطفال منذ الصغر فى ممرات طويلة ضيقة مظلمة تترك فى نفوس بنيها مخاوف واضطرابات شتى بشخصياتهم. فتربع الباحثون النفسيون ببحوثهم المدهشة قائمة أهل الجلال والاحترام فى نفسي، وأعتقد فى نفوس كثير من رفاق الدفعة.
لقد تتلمذت بكل التلقي الحسن على شخصية وفكر ومنهجية ولغة أستاذ الأساتذة “قدري حفني” بمرحلتى الجامعية الأولي، بمقررات مدخل إلى علم النفس، والنصوص النفسية، والقياس النفسي، والأمراض النفسية الاجتماعية، بالترتيب، وكذلك مقرر القياس النفسي المتقدم بالسنة التمهيدية للماجستير. كان سؤال المقال بالاختبار “صمم اختباراً لذكاء أطفال مصر دون سن المدرسة”، بأربع ساعات حلقت كأحسن مايكون الباحث المبتدئ فى كل زاوية من زوايا محاضرات عالمنا الجليل، والعبور عبر خيال الافتراض البحثي إلى أطفال مصر، ريفا وحضراً، وساحلا وصحراء، فقراء وأغنياء، إلخ … أجمع خصائصهم الديمغرافية، وأعود لخزانتى السيكومترية المتواضعة، أستل منها طرفاً لتعريف إجرائي، وتحديد للأبعاد، واقتراح للبنود، وتجارب للوضوح، ونهج لصدق وثبات.. حتى انتهت دقائق الاختبار الأخيرة وبتوها فرغت من وضع درجات معيارية مقترحة. لا تسألن كيف؟.. ولكن سلني: من؟.. هو سعادة العالم الجليل الذى إذا علّم …علّم، وإذا أرسي …رسّخ.
وبعد مضي مايزيد على أربعٍ وأربعين من السنين، مازلت أنتفع بكل معلومة تلقيتها على يديه الكريمة في محاضراتي وبحوثي وإشرافي العلمي، فضلاً عن أن بجواري الآن على مكتبي دفتر محاضراته للقياس النفسي، خاصة بالفرقة الثالثة.
وتمر السنون ونحضر مناقشة رسالة الماجستير هذه، أو الدكتوراه تلك؛ لزملاء أشرف عليهم عالمنا الجليل، أو حظوا بموسوعية مناقشته إياهم، وتكتمل حالة الانبهار بشخصية الأستاذ الجامعي، والتي توجتها رفقته للزعيم والقائد العظيم أنور السادات في رحلته التاريخية للقدس، فطاولت أعناق أهل الاختصاص السماء لما لشأن علم النفس فى قناعات من بيدهم مقاليد الأمة. من بعدها مباشرة عرف علم النفس بمصر طريقه إلى تخصص جديد على المنطقة بأسرها، ألا وهو علم النفس السياسي، كان رائده علمنا الجليل، وعلى يديه تتلمذ العديد ممن هم الآن نماذج من قيادات التعليم العالي الرفيعة.
لقد اتصف عالمنا الجليل بأريحية ندر وجودها، فدرس لنا كتاب طيب الذكر أ.د.الزيادي “أسس علم النفس”، ووجهنا لقراءة مقالة مطبوعة بعنوان “الموضوعية فى علم النفس” للأستاذ الدكتور محمد الطيب. وحين درسنا النصوص النفسية؛ جلب لنا – عبر البحر- كتاب Basic Psychology لمؤلفه Kindler، وكان أول تواصل مدهش، ومواكبة عصرية لطلابٍ غضٍ لمعطيات السيكولوجيا العالمية.
إن المناصب لتزهو بأصحاب القدر الرفيع، فقد تولى أستاذنا الجليل عمادة معهد الدراسات العليا للطفولة، وكان مقرراً للجنة الدائمة لترقيات أعضاء هيئة التدريس في تخصص علم النفس، وغيرها من المناصب الرفيعة، وحظيت بشرف مناقشته وأعضاء اللجنة الموقرين لدراستي المرجعية بعنوان “أحادية الرؤية وأساليب حل المشكلات”، وفوجئت بثنائه على تناولي النظرية لهذا الموضوع، بل إنه كان مدافعاً بموضوعية إنسانية عن عملي العلمي، تجاه نقد غير موضوعي من أحد أعضاء اللجنة الموقرين.
تمر العقود، ويحل كاتب هذه السطور وكيلاً للدراسات العليا والبحوث بكلية الأداب جامعة المنوفية، ومقرراً لمؤتمر نظمه تحت عنوان “المواطنة ومستقبل مصر” وبدعوة وجلة، رجوت عالمنا الجليل أن يكون المتحدث الرئيس بالندوة الافتتاحية الكبرى للمؤتمر، وذات الدعوة وجهتها لسعادة العالم الجليل أ.د. محمود عودة، وبكرمهما حظيت بالموافقة والترحيب، فازدانت منصة المؤتمر بعملاقين على المستوى الانساني والفكري والوطني.
وترتقى بالجميع مراتب المخلصين من الباحثين، والمتواضعين من العلماء، وأنعم بشرف معية أستاذنا الجليل بمنصات مناقشة الرسائل العلمية، لأخالني بموضع الطالب الباحث تلقياً رغم المشيب للحكمة السيكولوجية، من عالمنا الجليل، وحتى الأمس القريب من السنين، واستاذنا الجليل يلبي دعوات المناقشات بشتى الجامعات بمحافظات مصر، رغم مشقة السفر، وعناء الجهد، إلا إنها رسالة ورثة الأنبياء وأخلاقهم .
وكم كانت معية عالمنا الجليل بعضوية لجنة علم النفس بالمجلس الأعلى للثقافة ثرية بالطموح السيكولوجي لمصر والمصريين. وحتى لحظة كتابة تلك الشهادة الأمينة، لا ينقطع تواصل أستاذنا الجليل مع جيل زملائه، وتلامذته من الأساتذة، بل وتلاميذهم ، وعبارته الأثيرة الآسرة ما تزال بمقرها السمعي “طمني عليك يا..”
وإذا رددت مقولتى “أن الأسفار تضيف للعمر أعماراً”، فإن فادح خسائرها، البعد النسبي عن مصر العامرة بنفيس ذخائرها، وعزاؤنا فى تكنولوجيا العصر التى أتاحت التواصل بلمسة خفيفة أو حتى بالنداء الصوتي.
اللهم اجمعنا بدنيا العلم والعمل وحسن الجزاء، حالاً ومآلاً.. واحفظ رصيدنا العلمي والفكري والإنساني، إرثاً نافعاً لأجيال وأجيال.