منوعات

التأقلم مع الواقع.. حيل التعايش مع ما كنا نرفضه

السلوك الإنساني مراوغ في معظم الأحيان، وحينما يتعلق الأمر بالسياسة يصبح الأمر أكثر إثارة للحيرة والارتباك، لتداخل عوامل معقدة ومركبة للغاية في تحديد سلوك الجمهور.

هذه الظاهرة لفتت نظر باحثين في علم النفس لاحظوا أن استطلاعات الرأي حيال قضايا سياسية في دولة ديمقراطية كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية تعتريها تغييرات مفاجئة وكبيرة عند مقارنة نتائج استطلاعات الرأي في مرحلة ما قبل اتخاذ القرار بنظيرتها بعد أن أصبح هذا القرار واقعا معاشا.

في هذا السياق، رصد هؤلاء أن برنامج أوباما للرعاية الصحية (Obamacare) كان لا يحظى بشعبية على نطاق واسع حتى بدأ سريانه فعليا، كما تعرضت الخطة الضريبية للحزب الجمهوري في عهد ترامب للسخرية على نطاق واسع في البداية لدى اقتراحها ومناقشتها، إلا أن الأمريكيين أبدوا لاحقا ترحيبا بها بعد أن دخلت حيز التنفيذ.

باحثون في علم النفس السياسي أعلنوا مؤخرا نتائج ثلاث دراسات ميدانية حول تلك الظاهرة، مفادها أن الجمهور يميل إلى الموافقة على أمور سياسية سبق أن أبدى معارضته لها في البداية، وذلك بمجرد انتقالها من كونها كانت مجرد احتمال متوقع إلى تحولها لحقائق قائمة على أرض الواقع.

كريستين لورين من جامعة بريتيش كولومبيا

وقالت كريستين لورين من جامعة بريتيش كولومبيا، عضو الفريق البحثي للدراسة التي نشرتها مجلة جمعية العلوم النفسية الأمريكية، في تصريحات نشرها موقع “ساينس دايلي”: “عندما نتوقع حدوث شيء ما قد يبدي الناس معارضة له لتصورهم أنه يعارض مصالحهم أومبادئهم، لكن عندما يصبح واقعا بالفعل يبدأون على الفور في إيجاد طرق لجعل أنفسهم يشعرون بالراحة حيال ذلك”.

وأضافت: “هذا يوضح أن استطلاعات الرأي العام حول أي مبادرة محتملة أو قرار سياسي جديد قد تبالغ في تقدير حجم المعارضة المتوقعة حال تفعيل المبادرة الجديدة أو الواقع الذي يفرضه قرار ما”.

في دراسة سابقة، خلصت لورين إلى نفس النتيجة، وهي أن الناس يضطرون للتوائم مع الأشياء التي يشعرون أنهم عالقون بها، بمعنى أنها اصبحت أمرا حياتيا عليهم التعامل معها، خاصة تلك الحالات التي لا يمكنهم الهروب منها فعليا والمرشحة للاستمرار بشكل مستقر.

 وتضيف لورين: “عندما ينتقل القرار السياسي أو المبادرة الجديدة من كونه شيئا يفترض أن يحدث في المستقبل إلى أن يصبح جزءا من الحاضر، هنا تختلف طريقة التعاطي معه وتتجه إلى منحى واقعي للتأقلم والتواكب مع الواقع”.

في إحدى الدراسات الأولية استخدمت لورين إعلانات Facebook لجذب المشاركين في سان فرانسيسكو لاستطلاع أرائهم حيال قرار يقترح حظر بيع زجاجات المياه المعبأة على مستوى المدينة. أفاد المشاركون الذين أجابوا على أسئلة الاستطلاع عقب الحظر مباشرة عن مواقف أكثر إيجابية تجاه المبادرة من أولئك الذين أجابوا على الاستبيان الاستقصائي قبل تطبيق الحظر.

وتوسعت دراسة ثانية حول هذه النتائج، عندما سعت لاستطلاع آراء مشاركين من ولاية أونتاريو حول قانون جديد يحظر التدخين في الحدائق العامة والمطاعم. في البداية أبدى المشاركون رفضهم للاقتراح، لكن مع دخول القانون حيز التنفيذ أبدى المشاركون، وجميعهم يعيشون في أونتاريو ومن المدخنين، تجاوبا لدى سؤالهم عن عادات التدخين الخاصة بهم وأبلغوا عن نسبة التدخين التي حدثت في أماكن معينة كما حرصوا على الحصول معلومات بشأن التشريعات الجديدة وتوقيت العمل بها والمواقع التي يُحظر فيها التدخين.

وفي دراسة ثالثة، تم استطلاع آراء الأمريكيين مرتين قبل تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة ومرةً ثالثة في الأيام الثلاثة التي تلت تنصيبه فعليا. وعكست النتائج مواقف أكثر إيجابية للمشاركين بعد التنصيب مقارنة مع مواقفهم في الاستقصاءات التي سبقت تولي ترامب المنصب. المثير للاهتمام أن المشاركين الذين قيموا أداء ترامب سلبيا خلال مراسم التنصيب، وأولئك الذين فضلوا مرشحًا مختلفًا للرئاسة، أظهروا نفس نمط النتائج، حيث مال هؤلاء إلى التعبير عن مواقف أكثر إيجابية حيال ترامب بمجرد توليه السلطة.

في هذا السياق تقول لورين: “من الصعب أن تفهم لماذا تغير حكم الناس على أداء مرشح رئاسي أو سياسي عموما بشكل مفاجيء ليصبحوا أكثر ثقة في قدراته على قيادة البلاد، هذا ليس عقلانياً لكنه أحد صور التوائم أو استراتيجيات التأقلم، فعندما يصبح شيء كان مجرد احتمال جزءًا من الواقع فإنك تضطر لخداع نفسك بالتفكير بأنه ليس سيئا للغاية، حتى لو لم تكن مؤيدا لهذا الشخص أو القرار السياسي”.

تلقي هذه الدراسات الضوء على الكيفية التي يمكن أن نشعر بها حيال حقائق سياسية جديدة، ولكن تأثيراتها تنطبق أيضا على مجموعة متنوعة من السيناريوهات الأخرى غير السياسية.

وفي هذا السياق تقول لورين: “إذا كان لديك مدير  جديد في العمل، أو إذا كان عليك أن تبدأ نظامًا غذائيًا جديدًا، أو كنت على وشك أن يكون لديك طفل جديد، فإن نظام المناعة النفسي لديك من المحتمل أن يرفض في البداية، ثم لا يلبث أن يجعلك تشعر بتحسن حول أي جانب غير سار من هذه الحقائق الجديدة بمجرد أن تترسخ في الواقع”.

تامر الهلالي

مُترجم وشاعر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock