فن

سيمفونية العقل والوجدان.. في رحاب سليم سحاب (2-3)

لا ينكر سليم سحاب أن لكل إقليم عربي مزاجاً مميزاً تظهر ملامحه أكثر ما تظهر في الموسيقى الفلكلورية، ولكننا حتى لو دققنا في هذه الظواهر الموسيقية ودرسنا علاقتها الموضوعية بالشخصية العامة للموسيقى العربية الكلاسيكية التراثية المعاصرة، أمكننا أن نعقد مقارنة تامة مع الأوضاع الموسيقية الأوروبية، التي تعايشت فيها وتداخلت مدارس الموسيقى القومية بكل بلد أوروبي مع العناصر الأساسية المكونة لشخصية الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية بشكل عام.

بل بإمكاننا التأكيد أن العلاقة بين روافد الموسيقى العربية الفلكلورية الخاصة بكل إقليم عربي (الخليج، المشرق، مصر، المغرب) والشخصية العامة للموسيقى العربية الكلاسيكية، أشد وثوقاً من علاقة الموسيقى الفلكلورية الأوروبية الخاصة بكل بلد بالشخصية العامة للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية.

جمال حمدان

مصر كان وما يزال لها دور مركزي في هذا المجال، ومن الجمل الصادقة للمفكر الكبير جمال حمدان تلك التي قال فيها “إن قدر مصر أن تتعرب سياسياً، وقدر العرب أن يتمصروا ثقافياً”، هذه الجملة تختصر الكثير في صياغة عبقرية، وكلنا يعلم أن مصر تاريخيا كانت المكان الذي اجتمعت فيه كل خصائص الحضارة العربية من الشرق ومن الغرب.

المايسترو سليم سحاب يشبه مصر بأنها مركز نسيج العنكبوت الذى إذا حدث به أي خلل امتد لباقي النسيج بأكمله، كما أن أي خلل يحدث على خيوط العنكبوت يستشعره المركز، وهى كذلك مثل الطائر، جناحه الأيمن المشرق العربي، وجناحه الأيسر المغرب العربي، وبدون الأجنحة لن يطير الكائن، وبدون الجسد لن يكون هناك طير من الأساس، ولهذا فإن مصر هي مركز الموسيقى القومية، وبها اختزال الموسيقى العربية من المحيط للخليج، إذ كان علماء المشرق خلال عهد العباسيين، يمرون بمصر في رحلتهم إلى الأندلس عند زرياب، وفى عودتهم لبلاد الشام كانوا يعودون بما اكتشفوه في المغرب ويمرون به على مصر مرة أخرى، من هنا أصبحت مصر أشبه بـ«خزان» للموسيقى من المشرق للمغرب ومن المغرب للمشرق، ومن هنا تأتي أهمية ومكانة مصر ثقافياً وفنيًا، ولهذا السبب يتوجه فنانو العرب حتى يومنا هذا إلى مصر ليس فقط من اجل الشهرة، ولكن لأن القاهرة هي قبلة العرب ومحج قلوبهم ووجدانهم.

ولكن البعض ينكر على مصر هذا الفضل أو ذلك الدور، قلت للمايسترو سليم سحاب الذي أشاح بيديه وهو يقول: لا تلتفت الى الهوامش، في المقابل سوف أعطيك أمثلة من أقوال ممثلي المدرسة المشرقية العربية حول علاقتهم بالمدرسة المصرية:

فيروز

فيروز: تقول إنها تربت على أغنيات أسمهان وليلى مراد وعندما تريد الاستماع إلى الموسيقى الأصيلة فإنها تستمع إلى أغنيات أم كلثوم وبخاصة أغنية “هو صحيح الهوى غلاب ” ومعروف أن أستاذ فيروز في غناء الموشحات كان المغني الفلسطيني المعروف محمد غازي[1] ابن المدرسة الموسيقية المصرية.

نور الهدى: تربت على الغناء المصري وعلى الموشحات العربية وكانت تقول لنا إن أباها لم يكن يتوقف عن القول بأنها لو لم تتعلم أن تغني كأم كلثوم وفتحية أحمد ونادرة لما تعلمت الغناء إطلاقاً.

وديع الصافي: يقول في برنامج سجله التليفزيون اللبناني معه في باريس إنه تعلم الغناء من اسطوانات محمد عبد الوهاب التي كان يسمعها عشرات المرات حتى أتقن طريقة عبد الوهاب في الغناء

زكية حمدان[2]: قالت لنا شخصياً إنها تعلمت الغناء بحضورها أفلام عبد الوهاب وأم كلثوم ثلاث مرات في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع وواحد وثلاثين يوماً في الشهر لغاية توقف الصالة عن عرض الفيلم. وكان ذووها يحضرون لها الطعام في دار السينما.

نجاح سلام: تقول إنها تعلمت الغناء على أبيها الفنان محيي الدين سلام الذي علمها الموشحات والأدوار المصرية وقصائد وأغنيات أم كلثوم.

سعاد محمد: انطلقت وهي طفلة في الثالثة عشر من عمرها بغنائها أغنية أم كلثوم “ليه تلاوعيني”، وظلت مدة طويلة تغني قصائد وأغنيات أم كلثوم على المسرح قبل وبعد أن بدأت بغناء أغنياتها الخاصة.

ميشال خياط: كان يفتخر دائماً بأنه تتلمذ على سيد درويش وعلى صديق عمره زكريا أحمد.

زكي ناصيف: يقول إنه تعلم التلحين من خلال استماعه لأغنيات محمد عبد الوهاب، والانتباه إلى البناء الموسيقي العبقري في هذه الأغنيات، ويقول بأن أعظم الأصوات على الإطلاق هي أصوات المقرئين المصريين من أمثال المشايخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد.

وزكي ناصيف هو صاحب النظرية الفنية القيمة التي من دونها يستحيل دراسة وتحليل وفهم المدرسة الموسيقية اللبنانية الحديثة، هذه النظرية تعطيك المفتاح لفهم هذه الموسيقى، يقول: الموسيقى المشرقية مزيج من الموسيقى المصرية والبدوي والسرياني، هذه هي العناصر الثلاثة  هي التي تؤلف الموسيقى المشرقية.

توفيق الباشا[3]: يقول إن أغنيات محمد القصبجي لأم كلثوم هي التي دفعته إلى احتراف الموسيقى. ويقول أيضاً إن المدرسة الموسيقية اللبنانية هي الابنة الشرعية للمدرسة الموسيقية المصرية.

فيلمون وهبي: كان لا يكل من ترديد أنه بدأ حياته بوصفه مطرباً وتأسس موسيقياً بغنائه مواويل وأغنيات محمد عبد الوهاب على المسارح.

الأخوان رحباني: في أثناء دراستهما عند الأب الأنطوني بولس الأشقر كان الأب المذكور يسمعهما بشكل معمق أعمال سيد درويش وأبي العلا محمد ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من عباقرة الموسيقى العربية المصريين. وقد وردت هذه المعلومات في الكراس الذي وزع في المهرجان الذي أقيم لتكريم الفنان المرحوم عاصي الرحباني وقد جمع هذه المعلومات أخوه منصور.

عفيف رضوان وحسن غندور: تتلمذا على محمد عبد الوهاب في الغناء والتلحين حتى نخاع العظام

خالد أبو النصر: تعلم التلحين على قصائد الشيخ أبو العلا محمد، ومحمد عبد الوهاب، وقصيدته “أهواك” التي غنتها زكية حمدان وهي في الثامنة من عمرها أسطع دليل على ذلك.

حليم الرومي: قال لي شخصياً: “إن ما نفعله هنا في لبنان شغل هواة، التلحين الأصلي موجود في مصر وخاصة عند محمد عبد الوهاب الذي كان يسميه “إمبراطور التلحين”.

الموسيقار محمد عبد الوهاب

سألته: يقال إن الموسيقى لغة عالمية، فهل هناك بالفعل قومية موسيقية؟

بادرني بالقول: هذا الخطأ الشائع الذي يقول بأن الموسيقى لغة عالمية، يغفل حقيقة أن الموسيقى هي لغة قومية ذات حروف عالمية، وكل الناس يعرفون أن جميع لغات أوروبا ونصف لغات الشرق إلى جانب جميع لغات أمريكا الشمالية وبعض أمريكا الجنوبية تكتب كلها بالحروف اللاتينية ولكنها في الأصل لغات قومية مائة في المائة وإن كتبت بنفس الحروف، هكذا موسيقات الشعوب تتألف من الحروف الموسيقية نفسها (دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي)، ولكنها تبقى اللغة القومية لكل شعب.

قام المايسترو إلى البيانو وقال استمع معي وبدأ يعزف مقاطع من “سيمفونية بيتهوفن الخامسة”، ثم عزف موسيقى “أهل الهوى يا ليل” لزكريا أحمد، وسألني: ماذا تلاحظ؟، ويجيب: إنهما مكتوبتان على المقام نفسه ولن تجد أي شبه أو شبهة شبه بين هذين العملين؟، فاللحن الأول ذو جنسية ألمانية وانتماء ألماني محض، والثاني انتماؤه عربي. الذي يجمع بينهما هي حروف الموسيقى السبعة فقط.

المايسترو سليم سحاب

سألته عن تفسيره لظاهرة أن أمريكا رغم أنها على قمة الحضارة السائدة لم تقدم للعالم موسيقي عظيم على قدر موسيقيي أوروبا وروسيا، أجابني أن السبب تاريخي وقديم، فالإنسان الأبيض قاطع الطريق الذي هرب أو هاجر إلى أمريكا هرباً من العقاب في بلاده الأصلية تاركاً كل صلة له ببلده الأم قطع بشكل إرادي صلته بتراث بلاده الحضاري ومنه الموسيقى، في المقابل الأفريقي الذي أخذ قسراً من بلده إلى أمريكا كان تراثه هو الصلة الوحيدة التي بقيت له تربطه بأرض أجداده، لذلك فإن التراث الموسيقي الوحيد هو التراث الزنجي وأهم موسيقي أمريكي هو “جربشوين” ذو الأصل الروسي الذي بنى أعماله الموسيقية على التراث الزنجي وقد حورب في حياته انطلاقاً من عقدة التفوق العنصري للبيض على الزنوج، وكالعادة لم يعط حقه إلا بعد مماته، وهذا ليس رأيي الشخصي فقط بل رأي المفكر الموسيقي العظيم قائد الأوركسترا العالمي “إرنست أنسرميه” الذي نفى وجود مدرسة موسيقية أمريكية أو حتى أعمال موسيقية متفرقة وأوعز السبب إلى عدم وجود تراث موسيقي أمريكي.

**

[1] محمد غازي هو اسمه الفني، والاسم الحقيقي هو (عبد العزيز حسين أبو شاويش)، وهو من قرية بيت دجن قضاء يافا في فلسطين استقرّ في لبنان إلى أن توفي فيه، رافق محمد غازي الرحابنة وفيروز في بدايتهم. كان ضليعًا في الموشحات، وقد عُهد إليه تدريب فيروز في إلقاء الفصحى وغناء الموشّحات، وأدّى معها في الخمسينات بعضًا من أجمل الموشحات الرحبانية مثل ‘الليل أناشيد والعمر مواعيد’ (صدرت في أسطوانة ‘أناشيد’)، ‘الحب القديم’، و’زرياب’ (التي سجّلت كذلك مع كارم محمود في مصر)، واشتهر محمد غازي بتأدية يا ‘شادي الألحان’ مع فيروز، وقد ظهر إلى جانبها في تسجيل مصور لهذا الموشح في إحدى السهرات التلفزيونية، وهي ‘ضيعة الأغاني’، كما انطبع صوته في ذهن المستمعين في أدائه ‘يا وحيد الغيد’، ‘حجبوها’ و ‘ يا غصن نقا’.

[2] زكية حمدان (1920 -1987) مغنية سورية ولدت في مدينة حلب لقبت بـأم كلثوم الشام وهي من عمالقة الفن العربي الاصيل.

تنتمي لأسرة من الوسط الفني، تدربت زكية على يد والدها لإتقان الإلقاء الشعري للقصائد باللغة العربية الفصحى والتحكم بمخارج الحروف ثم أخذ يصحبها بعد ذلك إلى النادي الموسيقي الشرقي الذي تم تأسيسه لغاية الحفاظ على التراث الغنائي الشامي، هناك تتلمذت على يد الفنان عمر البطش وعلي الدرويش وعلماها أصول غناء الـموشحات والـقصائد والقدود ومع الوقت بدأت تعلُم وإتقان العزف على العود، متابعةً نشاطها بالغناء في المسارح والنوادي الليلية، وتحولت من غناء الـموشحات والأدوار وأغاني التراث التي بدأت بها بالغناء لـسيد درويش ومحمد عثمان وداود حسني بالإضافة لأعمال محمد عبدالوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي وخاصة في الألحان التي قدموها لـأم كلثوم مثل “أنا في انتظارك” و”يا مسهرني” حتى اُطلق عليها لقب أم كلثوم الشام إلا أنها لم تكن تقلد كوكب الشرق في الغناء؛ إنما كانت تضفي إحساسها الخاص في الأداء موظِفةً قدراتها في التشكيل والتعبير في الغناء.

[3] توفيق الباشا: نجم لامع من نجوم الإذاعة اللبنانية، وهو رائد من رواد الموسيقى العربية وواحد من رجالات لبنان المبدعين الذين تركوا إرثا غنيا في الموسيقى والفن والإنتاج الإذاعي. ساهم مساهمة فعالة في نهضة الأغنية اللبنانية والعربية، وترك وراءه مدرسة موسيقية كبيرة ومهمة وتخرجت على يديه أعداد كبيرة من الموسيقيين والفنانين.

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock