ثقافة

عبد الوهاب مطاوع.. قصص السعادة والشقاء

عاش المصريون وقراء جريدة الأهرام من الأشقاء العرب سنوات كثيرة ينتظرون صباح الجمعة لكي يطالعوا “بريد الجمعة” لمحرره الكاتب الكبير الراحل عبد الوهاب مطاوع.

ترى لماذا كان القراء يتابعون الباب بشغف عظيم؟.

كان الباب كغيره من تلك الأبواب الصحفية التي تعتمد اعتمادًا كاملًا على رسائل من القراء التي تحمل مشاكلهم ويلتمسون حلًا لها لدي محرره.

تنوع المشاكل، نظرًا لتنوع  القراء، ثم حرقة البوح، كل ذلك لا يفسر لماذا وحده باب عبد الوهاب مطاوع حقق نجاحًا خرافيًا لم يتجاوزه بل لم يقترب منه أحد حتى كتابتي لهذه السطور؟.

الذي أراه أن نجاح الباب الأسطوري يعود إلى فن الأستاذ عبد الوهاب مطاوع، رحمه الله، فقبل مطاوع كانت أبواب، وبعد موته كانت أبواب، بل إن بابه لم يحجب عن النشر، فقد تولى غيره تحريره وبذل ما بذل من جهد لكي يظل الباب ناجحًا لكن هيهات، فلقد مات الباب بموت صاحبه الأول، ثم لم يزاحمه على القمة  باب في الأهرام أو غيرها من صحفنا.

فن الأستاذ عبد الوهاب تمثل في خطوات ألزم نفسه بها بكل جدية وصرامة.

الخطوة الأولى كانت عدم اعتماد الأستاذ مطاوع على مساعديه بشكل كلي، فلمثل تلك الأبواب ذات الجماهيرية الساحقة مساعدون قد يقومون بكل العمل ولا يتركون للمحرر سوى وضع لمسة نهائية. استيلاء المساعدين على تحرير الباب يجعله مشتتًا ولا استواء فيه، فلكل مساعد ذائقة ولكل مساعد وجهة نظر ولكل واحد منطق، فتأتي المشاكل والردود عليها كأنها ثوب ممزق تكسوه الرقع.

لقد  نجا باب الأستاذ مطاوع من صورة الثوب المرقع، ورسخت قدماه  في شموخ وكبرياء وجلال لأن صاحبه قد هذَب أطرافه وأقام بنيانه على هدي من ذائقته هو الخاصة.

الخطوة الثانية كانت في انتقاء الرسالة التي تستحق النشر والرد عليها، فالذي لا أشك فيه أن الرجل كانت تصله آلاف من الرسائل، ذلك الطوفان يحتاج إلى عين بصيرة وإلى بصيرة يقظة مضيئة وإلا تاهت الخطوات وارتبك المعني.

كان الأستاذ مطاوع يختار الرسائل ذات الدلالة، فمن بين ألف رسالة تدور عن المشاجرات الزوجية كان يختار رسالة واحدة، تكفي سطورها لإلقاء الضوء على مشكلة قد لا يخلو منها بيت.

الخطوة الثالثة كانت ـ وهنا يتجلى فن مطاوع ـ في صياغة الرسالة التي وقع عليها اختياره لكي ينشرها.

الرسائل كانت من شتى طبقات المجتمع، فهناك رسالة من أستاذ جامعي يعرف فن الكتابة ويجيد التعبير عن نفسه، ورسالة من حرفي (يفك الخط بصعوبة) وثالثة من أميّ لا يعرف الكتابة أصلًا وقد عهد لغيره بالتعبير عن نفسه.

هذا التنوع الذي يبدو مزعجًا، أصبح ميزة لدي الأستاذ عبد الوهاب، لأنه كان يدخل الرسائل إلى معمله هو الذاتي فتخرج من المعمل وقد أصبحت أدبًا يطالعه القارئ المحترف بشغف عظيم .

فهو يعرف كيف يحكي الحكاية، وتلك أهم ميزة يمتاز بها القصاص عن غيره من الكُتّاب، ثم يعرف كيف يبرز عقدة الرسالة، ثم يعرف كيف يصعد بإيقاعها حتى يلهث قارئها وهو يتابع بعينيه سطورها.

إن الرسائل المنشورة ليس فيها من أصلها شيء إلا لب المشكلة، أما ظلال الرسالة وألوانها وإيحاءاتها فكل هذا كان من صنع عبد الوهاب مطاوع، الذي توافرت له كل شروط القصاص الناجح ولكنه أجهض مشروعه القصصي لصالح التفاعل المباشر الحي مع مشاكل مجتمعه.

تلك كانت الخطوات ـ فيما أرى ـ التي جعلت الباب يتألق تألقًا غير مسبوق، ثم يأتي فن الرد الوهابي.

من كلمة يحسبها كاتبها شاردة كان يبدأ رد عبد الوهاب مطاوع، كان ينفذ إلى المسكوت عنه في الرسالة، يكتشف المعنى الحقيقي الواقف خلفها والذي قد تستره كلمات كاتبها، لم يكن يعبأ باللف والدوران والغموض المتعمد الذي يتوسل به كاتب الرسالة لكي يتهرب من مواجهة حقيقة مشكلته.

لم يكن مطاوع يلتفت لجماهيرية بابه فيكتب ردًا يجلب رضا صاحب الرسالة، كانت ردوده تتحرى الأمانة أولًا فإذا كان كاتب الرسالة على خطأ كشف له عن خطأ موقفه وإذا كان على صواب بارك صوابه ودعاه للتمسك به.

ردود الأستاذ عبد الوهاب كانت تعتمد على ثقافة عريضة تحترم أولًا ثقافة الأمة القائمة على كتاب الله وسنة رسوله، ثم تضرب في شتى المعارف بسهم، فقد كان يستعين في ردوده بعلوم النفس والاجتماع والمنطق ثم كلمات الأدباء والمفكرين التي تتماس مع المشكلة التي يبحث عن حل لها، ثم يفوض صاحب المشكلة في استفتاء قلبه فلا يفرض حلًا فرضًا.

ولعل الاستاذ عبد الوهاب كان يعرف نوع الماء الذي سيجري في النهر بعد رحيله ولذا فقد حرص على نشر كتب تضم أهم المشاكل التي وصلته وردوده عليها، أذكر منها كتابه “أيام السعادة والشقاء” الذي نشر به خمسًا وعشرين قصة تكاد تشتمل على أبرز مشاكل المجتمع وقت صدور الكتاب.

إن الدور الذي لعبه مطاوع سيظل خافيًا على الجماهير ما لم يقم محللون بإعادة النظر إلى المشاكل التي كان ينشرها، فبالنظر إليها سنعرف كم طمرت الأيام من أخلاقيات.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker