تدور أحداث الرواية في بريطانيا خلال حقبة السنوات العجاف التي اجتاحت أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية؛ حيث نقابل جاك هوست – أحد بطلي الرواية – لأول مرة في لندن في شهر مارس من عام 1941، عندما يكون الوقت لا يزال مبكرا على التفكير فيه كبطل.
على العكس من ذلك، يبدو لنا أن الرجل الذي “لا يملك شيئا يلفت الانتباه”، ولا تظهر عليه “أي أمارات تدل على التميز أو النبوغ”، ويرتدي زيا رثا يدل على أنه عضو بجيش المقاومة الشعبية، يقوم بعمل غير آمن، وربما غير أخلاقي.
في ذروة الهجوم على المدينة، يقبع هوست في الحجرة الخلفية يإحدى الحانات في شارع تشيبسايد بمدينة لندن، محاولا تجنيد أحد العناصر المتعاطفة مع النازية للانضمام إلى طابوره الخامس، وإقناعه بالعمل كجاسوس لحساب “أصدقاؤنا في برلين”.
بعد قليل تتكشف الأحداث عن وجود علاقة وطيدة، وأواصر سياسية واجتماعية وأخلاقية تربط بقوة طائفة من البريطانيين بألمانيا ما قبل الحرب، باعتبارها “ذلك المكان الملهم الذي يشع منه عبق الموسيقى الآسرة والأجازات الساحرة والقيادات الكاريزمية”.
لم تشفع آلة القتل النازية وأشلاء الجثث المتناثرة في شوارع لندن في فصم عرى هذا الارتباط والقضاء على هذه العلاقة. ربما انزوت هذه الفئة عن الأنظار، لكنها لم تمت ولو تتوقف عن الوجود والحركة والحياة.
فمؤسس “اتحاد الفاشيين البريطاني” British Union of Fascists، أوسوالد موزلي، يقبع في غياهب سجن بريكستون، بينما تقبع زوجته، ديانا موسلي، في سجن هولوواي. رغم ذلك، لا يمنع هذا مجموعة من النازيين البريطانيين من المحافظة على ما تبقى من هذه الروح في أوصال الجسد البريطاني عبر عمل سري يكتنفه الغموض وتحدق به المخاطر.
التقطت هذه الصورة لأوسوالد موزلي وزوجته ديانا في عام 1943
ذلك تحديدا هو ما يقوم به هوست، الذي لا زلنا لا نرى فيه أي ملامح للبطولة؛ فمهمته كما تبوح لنا الرواية حتى هذه اللحظة تنحصر في البحث عن العناصر المتشرذمة من المتعاطفين مع النازية وتجنيدهم للعمل من أجلها.
نظل على قناعة بذلك حتى في اللحظة التي نراه فيها يسير عبر شوارع تئن تحت وطأة القصف النازي، وبين أطلال مبان صارت أثرا بعد عين، وبعد أن يصل إلى شقته فيجدها تحولت إلى حفنة لا تغني من رماد.
صورة للندن بعد غارة ألمانية في سبتمبر 1940
تتقدم الأحداث رويدا إلى أن يتحول هوست إلى مساعدة رئيسه في “الخلية”، فيليب تراهيرن، فنستطيع باطمئنان مشوب بحذر أن نسمح لأنفسنا بأن نعتقد أن هوست لا ينتمي إلى الطابور الخامس، بل أنه على العكس من ذلك رجل شجاع يمارس لعبة تقوم على الخداع، وربما تودي بحياته. فموظف البنك الذي يعيش حياة مستقرة (على الأقل من الناحية الاقتصادية) يجود بنفسه للعمل الاستخباراتي كعميل مزدوج، وربما ثلاثي، من أجل خدمة مصالح بلاده، ويعمد من خلال زرعه داخل منظمة نازية سرية إلى خداع العناصر الموالية، وتقويض مخططاتهم للاغتيال والتخريب.
في الوقت نفسه، يضع هوست نصب عينيه هدف أكبر، هو العثور على ماريتا باردو، الجاسوسة الفاشية المتعصبة، التي تختفي عن الأنظار منذ اندلاع أعمال العنف، لكنها وفقا لقناعات هوست لا تزال “في أحضان بريطانيا”.
في هذه الأثناء، يظهر على مسرح الأحداث البطل الثاني، أَيمي سترالين، التي كانت في وقت مضى الصديقة الصدوقة لباردو. تتحول سترالين إلى صيد ثمين لهوست من أجل العثور على باردو، فيسعى بقوة إلى إيقاعها في حبائله وإقامة علاقة معها.
في هذه المرحلة تغلب على الرواية النزعة الرومانسية، بينما تزداد المخاطر وتتحول الرهانات السياسية والأيديولوجية إلى رهانات شخصية.
تدور أحداث رواية Our Friends in Berlin التي نشرت في يوليو 2018، في ظروف تاريخية عصيبة بلغت ذروتها في عملية الخداع التي أقدمت عليها قوات الحلفاء، فيما يطلق عليه “عملية فورتيتيود” (Operation Fortitude)، عندما قامت قوات الحلفاء بعملية إنزال مخادعة في مدينة كاليه الساحلية الفرنسية لتضليل المخابرات الألمانية، وصرف انتباهها عن الموعد الحقيقي لاجتياح نورماندي (D-day).
اجتياح نورماندي (D-day) 6 يونيو 1944
من أحد الوجوه، تنتمي الرواية إلى أعمال المغامرة والإثارة؛ فهي تتعامل مع المخاطر التي تواجه مستقبل دول وتهدد حياة أفراد يخوضون أعمالا مخابراتية، ويتصدر أحداثها بطل مقدام.
على مستوى آخر، تحتوي الرواية على مشاهد عنف وحركة نسمع فيها دوي القنابل وتصدع المباني ونرى فيها هلع الأفراد وانفلات عربات القطارات.
بين هذا وذاك، لا تخلو الرواية من نزعة رومانسية فياضة تؤجج مشاعرنا وتدفعنا دفعا إلى تجاهل حقيقة العلاقة بين هوست وأَيمي، بل ربما أثارت في بعض أوقاتها مشاعر حقيقية بين بطليها.
وفي زخم الدمار وذروة الخداع تنبعث البهجة من بين حطام الصور التي يرسمها أنتوني كوين، مؤلف الرواية، بدءا من “الانفجارات المكتومة التي تشبه عملاقا يسير فوق سجادة”، ومرورا بالزجاج المتكسر الذي يملأ الشوارع “كأنه أمواج تتكسر على الشاطئ وتلقي رذاذها على جنباته”، ووصولا إلى شقة شارع جيرمين “المكسوة بألواح من الخشب ذات العطر المميز”.
تقدم الرواية أيضا شخوصا مثيرة للاهتمام، وتنطوي على كثير من المنحنيات والتعاريج التي تتجاوب مع طبيعة المرحلة، بدءا من فيليب تراهيرن، الأرستقراطي المسلي، إلى تيسا هاموند، مسئولة “الخلية”، التي يخيم عليها الحزن.
لكن، يبقى الأهم من ذلك كله أن الرواية تسلط الضوء على مرحلة عصيبة من تاريخ العالم انهارت فيها كل الثوابت والمقدسات، وخيمت عليها روح ما بعد الحداثة لتعلن كفر الإنسان بمقدسات الحقبة السابقة، وصدمته بما آلت إليه ما ظنها يوما إنجازات وطفرات.
في هذا السياق، ترسم الرواية ملامح أمل جديد يداعب الإنسان ويدفعه إلى خوض محاولات لاهثة لاستعادة إنسانيته التي ذبحت على محاريب الحداثة.