أسامة الحداد أحد القلائل من أبناء جيله (الثمانينات) الذي طوع فاشية اللغة وجعل كلماته تركض في الأسواق كطفل يشاغب العالم، كتب ديوانه الأول “شرورعادية”، الذي تلاه “ومن جاء”، “أن تكون شبحا”، “العشوائي”، “ميدان طلعت حرب”، وجاء ديوانه الأخير”متاح للمشاهدة”، الذي يبدو امتدادا للعشوائي بكل ما فيه من شغب مع العالم. “أصوات” حاورته في مجمل تجربته الشعرية، وهنا نص الحوار:
هل ترى أن الشعر يجري تهميشه لصالح أجناس إبداعية أخرى؟
إشكالية الأجناس الأدبية وصراعها، ممتد ومتواصل وإن تمايزت الأجناس والأنواع الأدبية، ولا أعتقد في فكرة تهميش الشعر، بقدر ما علينا أن ندرك حاجة المجتمع الجمالية والمعرفية، ونتسائل حول الصراع المحتدم بين الفنون الإنسانية، والفنون القادمة من التقنيات الحديثة وتحول البشر إلى آلات. أما الصراع بين الرواية والشعر باعتبار الرواية هي الجنس الأدبي الشامل الذي يقدم صورة للمجتمع وتقاليده وتفاصيل حياته، وارتباط هذه الأطروحة بالصراع الثقافي والحضاري، جدلية مفتعلة، فالأجناس الأدبية تتجاور بل أن فكرة الجنس الأدبي ذاتها محل ريبة من تواشج الفنون، لتداخل الأنواع إلى السمو فوق النوع والنص الجامع، وأتصور أن الشعر يظل في المقدمة يرسخ لوعي جمالي ويواجه مسخ الهويات ويؤكد على إنسانيتنا.
لماذا غاب الشاعر النجم عن المشهد الشعري العربي.. وهل جيل الستينات همش الأجيال التالية له؟
فكرة النجم ترتبط في جوهرها بالمؤسسات وتهميش تجارب ومشروعات شعرية لصالح الشاعر النجم، والتعددية حتمية تاريخية تتفق وفكرة النص أو نظريته، حيث الكتابة لا تبدأ من الفراغ والنص يتفاعل مع النصوص الأخرى، أما الفرد الخارق والأسطوري فلا وجود له.
نعم هناك تمايز بين شاعر وآخر في أطر متعددة، وهناك من النصوص ما هو فارق في إطار تحول دور الشاعر وتجاوز فكرة المحرض والنبي إلى الشاعر الإنسان وصراعه مع ذواته المتعددة في مجتمع شديد التعقيد وداخل كم من الإشكاليات اللامحدودة، إضافة لتراجع الفنون الإنسانية أمام المستحدثة التي تساهم في إنتاجها التقنيات الحديثة كالسينما والأعمال الدرامية والجرافيك، وهذا لايخص الشعر وحده، ولا يجب علينا تجاهل دور التعليم وما تقدمه المناهج الدراسية عن تصورات للنص الشعري.
أما عن جيل الستينات فلم يهمش أحدًا، والتغيرات السياسية والاجتماعية تباينت واختلفت، والأجيال الجديدة تجاوزت جيل الستينات في الرؤى والتشكيلات والأنساق الجمالية.
ثمة صراع خفي بين جيلي الثمانينات والسبعينات حول دورهم في نشر قصيدة النثر. كيف ترى هذا؟
هذا صراع سطحي إن وجد، فتحقق الشاعر من خلال نصه، والسبق التاريخي لا يصنع مجدا ما، وجيل الثمانينات قدم نصا يحمل خصوصيته الجمالية والمعرفية، وتصوراته للذات والآخر وللموجودات، وهذا لا ينكر دور جيل السبعينات مع تحفظي على مصطلح الجيل والمجايلة.
ثمة تيمة غالبة في كتاباتك وهى أنها ملغمة بالسوريالية واستخدامها في رصدك للواقع وبدا ذلك جليا في ديوانك الأخير “متاح للمشاهدة” الذي يبدو إمتدادًا لديوان العشوائي؟
ما هي السوريالية، إنها لا تعني الغموض ولا تخص مرحلة، إنها موازة لمسوخ العالم وغرائبيته، وأعتقد أنني لست سورياليا بمفهوم بيرتون وجورج حنين أو حتى سلفادور دالي، فالشعر به حالة استبطان ذاتي وتصورات للعالم تبدأ من الذات. النص عمل فردي حتى مع انطلاقه للوعي الجمعي، وحين أرصد الواقع شعريا فلدي تصوراتي حول موجوداته والتفاعل والصراع معها، والحياة الآن اسطورة بديلة، فميدوسا وأنكيدو وبينلوب وأوديب والسحر في مصر من إعادة رأس أوزة بعد ذبحها إلى عصا تحتمس والطواطم وغيرها من تصورات وحكايات لها بدائل كثيرة متحققة في الواقع، فحين تتحول الماهرة في النسيج إلى عنكبوت هذا أمر متكرر في واقعنا اليومي، وحين تأكل القنابل في سوريا والعراق واليمن العشرات كل يوم، أليست ىلة الحرب البشعة هي رأس آخر لميدوسا، فالواقع يحمل غرائبيته ورمزيته وسورياليته وهو ما أحاول من خلاله أن أحقق وجودي في هذه اللحظة حيث يتجمع التاريخ في خطوة واحدة على الأسفلت، وفي زحام عربات المترو، وإشارات المرور، ورائحة التبغ في المقاهي، وصور الضحايا على الشاشات.
كيف ترى دور المكان وجغرافيته داخل النص خاصة في ديوانك ميدان طلعت حرب؟
هل يمكن للفرد أن يعيش في الفراغ؟، أن يكون هلاميا؟، الميدان هو مساحة من الواقع والمعيش، ولا يمكن أن ينحصر مفهوم الحيز في الأعمال السردية، بل أن الملاحم والشعر العربي احتفيا بالمكان، هوميروس كان يحكي عن طروادة، وعمر بن أبي ربيعة لا نتصوره من خلال قصائده سوى في مكة. ميدان طلعت حرب، هو قبضة اليد التي تنطلق منها القاهرة التي أعيش الآن بها، النص تفاعل مع المكان ومتغيراته ومشاعر العابرين به، وحاولت تقديم تصوراتي عن الحياة بالقاهرة في بداية الألفية وصراعات اليومي والتاريخي، واكتشاف الأنا والآخرين بعيدًا عن العبارة الشهيرة (الآخرون هم الجحيم)، بالتزامن مع استشراف ماهو قادم وتقديم رؤية مغايرة للمكان، ولا أدرك هل حققت ما رغبت في تقديمه داخل النص الذي ارتكبته.
هل غياب نظرية نقدية عربية تؤطر لمفاهيم الشعر هو من صنع أزمة الشعر في عالمنا العربي؟
الأزمة ليست في النظرية ولا تكمن في الشعر بقدر ما هي إشكالية الأنساق المعرفية، بجانب التبعية وتحول المثقف من مبدع إلى تقني، لقد تجمعت حزمة من الإشكاليات لتضعنا في تلك الحالة وهي ليست وليدة اليوم، وتطور المجتمع وحده هو الكفيل بمواجهة تلك السلبيات، والاستسلام للثقافة الغالبة في الغرب ساهم في غياب النظرية وهي تمثل أزمة هوية. لدينا موروث حضاري وهوية ينبغي التأكيد عليهما، فليس كل ما يأتي من الغرب يتوافق معنا، والمدونات النقدية العربية تحتاج إلى التواصل معها وتحديثها والإضافة إليها بما يتناسب وهويتنا، بالرغم من المسافة الزمنية الشاسعة مع أبي هلال العسكري وابن جني والجاحظ والقرطاجني. هي فجوة زمنية يمكن التعامل معها بعيدا عن السلفية النقدية وتجديد الخطاب النقدي، وإن احتاج هذا إلى مناخ من الحرية لإعمال العقل خارج النقل والتلقين، سواء جاء من التاريخ أو انتقل إلينا من الآخر.
هل تتفق أن المشهد الثقافي العربي في وقت مضى كان يصدر مثقفيه بمنتجهم الثقافي للتعبير عنه والآن بات الأمر من الماضي؟
المشهد الثقافي يرتبط بالظرف السياسي وفترة التحرر من الاستعمار، فيما بعد الكولونيالية تختلف عن اللحظة الآنية، والتفاعل مع الآخر. تقديم منتج إبداعي لا يتحقق من خلال جزر منعزلة، وعلى الرغم من هذا هناك تجارب إبداعية ومشهد ثري خارج الأطر الرسمية، شديد الثراء والحيوية، يقدم رؤى مغايرة وجماليات بمستويات متعددة خاصة في قصيدة النثر والسرديات، واختيار المؤسسة للمشاركين في الفاعليات يساهم في تقديم صورة دميمة لهذا المشهد، بالإضافة إلى تراجع دور الفنون الإنسانية أمام ما يعتمد على التقنيات الحديثة، وهو الدور الذي تقوم به مؤسسات عالمية تحاول إزاحة ما هو إنساني لصالح منتجها الاستهلاكي.