خيال الأدباء المحلق كثيرا ما يسبق العلم، فهو بلا حدود ولا قيود ولا يحتاج تكاليف مادية وإمكانيات، مجرد حلم يسري في الأجواء يعبر عن أشواق الناس في حياة أفضل، ثم يأتي دور العلم ليحول الحلم إلي حقيقة، ربما تجاوزت الأحلام بكثير.
حلم الطيران في قصص ألف ليلة وليلة عبر بساط الريح تحول لحقيقة وصار السفر بالطائرات متاحا للجميع، حلم البللورة المسحورة التي يري الساحر فيها الناس والأحداث في البلاد البعيدة صار واقعا بالإنترنت وفي يد الصغير والكبير ولايحتاج سحرا فالعلم أعظم من السحر.
الدكتور شاكر عبد الحميد
يأخذنا الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة المصري الأسبق في كتابه (الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب) في رحلة شيقة لنري كيف سبق الأدب العلم ومهد له في تأسيس علم النفس علي يد سيجموند فرويد.
عن معني الغرابة، يقول شاكرعبد الحميد: الفيلسوف الألماني شيلنج الذي تأثر فرويد بأفكاره كانت له مقولة شهيرة (الغرابة هي اسم لكل شيء كان ينبغي أن يظل خفيا وسريا لكنه مع ذلك يتكشف ويتجلي ويظهر).
ومن معاني الغرابة عند فرويد نفسه ظهور غير المألوف بشكل مألوف، و(الغرابة) عنوان مقال كتبه فرويد عام 1919 أثناء تأليفه لكتابه (فيما وراء مبدأ اللذة) وطرح في مقاله نظريته حول حالة خاصة من التفكير تكون قريبة من الخوف والألم والرعب. الغرابة مفهوم ملتبس أو مزدوج يجمع بين المألوف وغير المألوف، الآمن والمخيف، كالبيت الذي قد يكون آمنا مريحا، أو يكون مهجورا مخيفا مثيرا للاضطراب، فالغرابة هي مزيج من الحالتين، وهي أيضا تحول إحدي هاتين الحالتين إلي نقيضها، هي حضور الحي في الميت، والميت في الحي، حضور الماضي في الحاضر، والحاضر في المستقبل. وكان الهدف الواضح من دراسة فرويد لموضوع الغرابة هو أن يكتشف المعنى والدلالات العميقة له بالنسبة إلى نظرية التحليل النفسي.
“رجل الرمال”
نشر إرنست هوفمان عام 1816 قصته الطويلة نوعا (رجل الرمال)، وهوفمان مؤلف ألماني للقصص الخيالية وموسيقي ورسام أيضا وهو مؤلف قصة (كسارة البندق) التي استوحاها الباليه الشهير، وهو أحد المؤلفين البارزين في الحركة الرومانتيكية عموما وكانت كتاباته شديدة التأثير خلال القرن التاسع عشر، ومن وحي قصته (رجل الرمال) جاءت دراسة فرويد عن الغرابة، وهي تلك الدراسة التي أطلقت سيلا من الكتب والمقالات خلال القرن العشرين، ولاتزال تفعل حتي الآن نظرا لما تتمتع به من خصوبة فكرية وثراء فلسفي.
علي كل حال هنا نموذج يتبدى لنا من خلاله كيف يمكن أن يسبق الإبداع الأدبي ما قدمه علماء النفس من تصورات ونظريات. في هذه القصة سنجد التيمات الأساسية التي انشغل بها علم النفس مثل: القرين، التلبس الشيطاني، الإحيائية والدمي، الخوف والجنون، صراع العقل والوجدان، الوعي بالتفكك واختلال الشعور بالذات والواقع.
تبدأ قصة (رجل الرمال) برسالة مطولة من بطلها (ناثانيل)إلى صديقه (لوثاريو) وهو في نفس الوقت شقيق محبوبته (كلارا). تنم الرسالة عن الاضطراب النفسي الشديد الذي يعاني منه كاتبها (ناثانيل)، فلمجرد أن بائعا عرض عليه بضاعته هاجت أحزانه ومخاوفه القديمة.
الكاتب يعرف أن كلامه غريب وربما يثير الضحك لكنه لا يمكنه السيطرة على مخاوفه التي انبعثت فجأة. يحكي في الرسالة عن طفولته حين كانت أمه تقول لأطفالها هيا للنوم فقد جاء رجل الرمال، وتخيل الصبي أن رجل الرمال هذا هو وحش مخيف لكن أمه طمأنته فهو مجرد تشبيه لحالة الدخول في النوم وكأن رملا قد نثر علي الدنيا وجعلها تغيب عنك وتستسلم للنوم ليس أكثر، لكن ذلك التفسير لم يقنع الصبي فلابد أنها حيلة من الأم لكي لايخاف من رجل الرمال الذي يسمع وقع خطواته الثقيلة بالفعل قبل النوم.
وكان والد الصبي يمتلك معملا يجري فيه بعض التجارب بمساعدة رجل يدعي (كوبوليس)، وفي أحد الأيام انفجر المعمل وراح أبيه ضحية للانفجار ما جعل الصبي يكره المساعد (كوبوليوس) ويحمله مسئولية التفجير، فلما رأي البائع الذي يشبه (كوبوليوس) شعر بالتوتر والكآبة. في النهاية يقول له: لا تخبر أمي عن عودة ظهور ذلك الرجل الكريه البغيض وأبلغ تحياتي إلي العزيزة كلارا وسوف أكتب لها عندما أكون في حالة مزاجية أكثر هدوءا.
رسالة كلارا المذهلة
الرسالة التالية كانت من كلارا إلى ناثانيل بعد أن قرأت رسالته الموجهه إلى أخيها، وتضم رسالة كلارا هذه تحليلا نفسيا فريدا سبق علم النفس ومهد لظهور مصطلحاته: (يا محبوبي ناثانيل: دعني أقل لك ما أعتقده بشكل مباشر، إن كل تلك الأشياء الشبحية والمخيفة التي تتحدث عنها، إنما تحدث فقط في داخلك أنت، ولا يوجد سوى دور صغير للعالم الخارجي الواقعي فيها، لقد توحد رجل الرمال المخيف في حكاية طفولتك المبكرة على نحو طبيعي في عقلك مع شخصية كوبوليس العجوز، ومع أنك لم تعد تعتقد في حقيقة رجال الرمال إلا أن كوبوليس ظل بالنسبة لك وحشا شبحيا خطرا علي نحو خاص. لقد حاولت عبر كلماتي البسيطة أن أشير إلى تلك الصراعات الداخلية التي تعتمل في نفسك، ربما هناك بعض القوى المخيفة الظلامية التي تشدنا إليها والتي يمكن أن تقودنا عبر ممر مدمر تكتنفه المخاطر إلى أن نصبح مثلها وتحتل حيزا كبيرا في نفسنا، لكننا لو كنا نمتلك عقلا راسخا يقوى من خلال قدرته علي العيش في بهجة فإننا سنكون قادرين علي معرفة الأثر الضار لتلك القوة النفسية المظلمة ونلفظها ولا نترك لها حيزا بداخلنا، وماتراه من أشياء خارجية مخيفة ما هو إلا أشباح الأنا الخاصة بنا).
وهكذا تمضي القصة في تحليل نفسي دقيق وعميق، ونلاحظ أن هوفمان استخدم مصطلحات (الأنا الخاصة بي، أشباح الأنا، الصراع النفسي الداخلي، تشكل الواقع الخارجي بالمخاوف الداخلية، مخاوف الطفولة وتأثيرها، دور الأب وغيابه، توحد الصور في العقل، دور البهجة والعقل الراسخ في مقاومة تأثير القوي الظلامية المخيفة، اللاشعور)، وهي نفسها المصطلحات والمعاني التي اعتمد عليها فرويد في تأسيسه لعلم النفس.
تمضي الرواية بعد ذلك لتقدم وصفا مذهلا لتفكك شخصية ناثانيل وسقوطه في براثن المرض النفسي، فقد أحب الدمية (أوليمبيا) وصار يراها كأنها حية وانتهي به الحال ممددا علي الرصيف بعد أن فقد حياته، أما كلارا فقد تزوجت وأنجبت طفلين وعاشت في سعادة.
وهكذا فجر الأديب هوفمان بروايته القصيرة التي يجمع النقاد حتى اليوم أنها النص الأكثر غرابة وثراء فكريا وفلسفيا، معينا من الأفكار الجديدة والمعاني والمصطلحات التي قام ببحثها والتحدث حولها كثيرمن الفلاسفة وقتها. وكتب عن الرواية سيجموند فرويد نفسه وناقشها وغاص فيها ثم استخرج لآلئها مؤسسا بها علما جديدا يشرح النفس البشرية ويحاول أن يجلي غموضها ويساعد آلاف البشر المعذبين للخروج من الممر المدمر للذات بأشباحه ومخاوفه إلى نور البهجة والعمل والعطاء حتى لا يصبح بداخل النفس حيزا لتعشش فيه الأحزان.