لو قدر للذاكرة أن تنتصر في معاركها ضد النسيان لتغير وجه الحياة على الأرض، لكن رغم كل ما احتاطته الذاكرة لنفسها من وسائل للتسجيل والتوثيق فالنسيان كان دوما عدوا لا يقهر، ليقيم كل صاحب سلطة حلفا معه يدعم به سلطانه، حيث تشكلت فوق أرضه، أرض الواقع الزائل، وقائع لم تحدث ونُفيت حوادث وقعت، وبذلك توارت بين ثنيات الواقع مآسٍ نزفتها الذاكرة لتُنسى.
ما رأيك قبل أن تنتقل من تلك المقدمة الغامضة والمجملة إلى تفصيل الموضوع، في فنجان قهوة ينبه عقلك لاستقبال ما سأطرحه عليك في السطور المقبلة؟، وليكن مدخلي إلى فكرة المقال فنجان القهوة ذلك.
ظهرت القهوة لأول مرة في اليمن في أوائل القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري) ثم انتقلت منها إلى مكة ومصر، وفي مكة استصدر الحاكم خاير بك فتوى من علماء الدين بحرمة القهوة باعتبارها مسكرة وكان حكم قاطفها وطابخها وشاربها كحكم شارب الخمر، أما بمصر فقد أبيحت بدايةً ثم صدرت فتوى لتحريمها وهدم كوانينها وكسر أوانيها، وأشرف العسس على إنفاذها، الأمر الذي أثار حفيظة تجارها وبائعيها فأرسلوا إلى العلامة أحمد السنباطي صاحب الفتوى ليتراجع عنها، فجاء رده أنها مادامت تؤثر على العقل إيجابا أو سلبا فهي حرام.
نتيجة لذلك خرجت الأمور عن السيطرة وجرت اشتباكات بين مريدي الشيخ ومؤيدي فتواه وبين تجار القهوة وبائعيها، ليسقط قتيل من صفوف الأخيرين، ويهرب الشيخ ومؤيدوه إلى المسجد، فيحاصره التجار والبائعون وأهل القتيل، وينصبون صوانا يقيهم برد الليل ويوزع التجار فناجين القهوة سادة على المحاصرين ثلاثة أيام (أصبحت بعدها عادة في العزاء) إلى أن سمع الخليفة بهذه الاضطرابات، فعين مفتيا جديدا أباح شرب القهوة، لتهدأ الأمور وتسكن الاضطرابات بعد أن انتزع الناس حق شربها بأيديهم.
وفي عاصمة الخلافة حرمت القهوة في عهد سليمان القانوني بفتوى من مفتي إسطنبول، لتغلق المقاهي ويطارد شاربوها، وتجددت فتوى تحريمها في عهد مراد الرابع (1623 ـ 1640)، ليسمح بها في عهد السلطان محمد الرابع (1648 ـ 1687)، وبذلك استمر النزاع حول حرمتها من عدمه ما يقرب من قرنين.
ومن القهوة إلى الطباعة حيث اخترع الألماني جوتنبرج أول آلة لها في القرن الخامس عشر (1455)، وبعد 35 عاما من ظهورها في أوروبا، طرح أمر استيرادها في بلاط السلطان بايزيد الثاني، وقال علماء الدين قولهم بحرمتها وتكفير من يستخدمها، ليصدر فرمانا سلطانيا بذلك استثني منه اليهود فيما بعد على اعتبار أنهم غير مسلمين، كما أصدر مفتي مراكش محمد ابن إبراهيم السباعي فتوى بتحريم هذا الاختراع، ولم يكن الأزهر بمعزل عن فتاوى التحريم فأقر عدد من شيوخه حرمته، ليتأخر دخول هذا الاختراع، الذي أسهم بشكل كبير في نقل الحداثة الغربية إلى العالم الإسلامي 200 سنة.
نموذج ثالث لفتاوى التحريم، هي فتوى تحريم الطماطم، التي ظهرت لأول مرة بالمنطقة العربية في بلاد الشام في القرن التاسع عشر، وكانت مثار استغراب واستهجان الشاميين لكون لونها أحمر وهي من الخضروات، لذا سماها الناس بـ”مؤخرة الشيطان”، ولما كان لزاما على أهل العلم أن يقولوا فيها قولتهم، فقد خرج مفتي حلب بفتوى تحرم أكل “مؤخرة الشيطان”، لكن الناس تجاوزوا الفتوى الرسمية خلال سنوات فانتشرت الطماطم وتوسعت زراعتها وعرفت تحت اسم “البندورة”.
ومن الطماطم إلى الحنفية، التي تعود قصتها لآواخر القرن التاسع عشر (1884) حيث تقرر استبدال الصنابير بالميض المخصصة للوضوء في المساجد بمصر، في إطار مشروع حكومي لتعميم الصنابير عبر شبكة مياه نقية متصلة بها، وعندما وصل الأمر إلى الأزهر تطلب فتوى من شيوخه، فعارضه مشايخ الحنبلية والشافعية والمالكية باعتباره بدعة، ولم يوافق على إحلال الصنابير محل الميض غير شيوخ المذهب الحنفي، ومن هنا جاءت تسمية الحنفية تبعا للمذهب الذي وافق أئمته على إحلال الصنابير محل ميض الوضوء.
تشترك نماذج الفتاوى هذه والممتدة على رقعة زمنية كبيرة وإن كانت ليست بعيدة نسبيا، أولا في أنها فتاوى رسمية وبالتبعية لا تعبر عن جماعات متطرفة أو هامشية، وهي وإن أضحت مثارا للسخرية اليوم لكنها بالأمس كانت موضوعات جادة تثير النقاش في أروقة الفقهاء ومجالس الناس ويوضع بحقها الرسالات والمؤلفات، ثانيا: أنها ممتدة على رقعة زمنية (ومكانية) كبيرة، خلال الخمسة قرون الأخيرة، ما يعني أنها ذات دلالة، ولا يمكن أن يحتج عليها بكونها تنتمي لما اصطلح عليه بعصور الانحطاط، فالمنظومة الفقهية التقليدية المكتملة حينها لا تزال تحكم، دون أن يطرأعليها أي تغيير معتبر.
إذن الأمر في حقيقته يرتبط بالعقلية الفقهية لا بحقبة زمنية معينة ولا بآراء تعود لأي من جماعات الهامش، وإذا حفرنا عميقا لسبر غور هذه العقلية بهدف الوصول لأبعد طبقة تقف عليها مثل هذه الفتاوى سنصل إلى قواعد قعدها الإمام الشافعي، وإن كانت جذورها أسبق على الشافعي بل أسبق حتى على الإسلام، حيث تمتد إلى العصر الجاهلي، وإلى الشعر، ديوان العرب، وعلمهم الذي “لم يكن لهم علم أصح منه”.
أرسى الشعر الجاهلى قاعدة أن القديم هو النموذج الأكمل، وأن على المحدث أن يتلمس خطاه، وينسج على منواله، ثم جاء الإسلام (كما صوره الفقهاء) فتوافق مع هذه الرؤية، ليؤصل لها الشافعي بعد ذلك على قاعدة “أنه لا تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”، وأن المعرفة يقاس نصيبها من الحقيقة بمقياس النقل، ومن ثم، فكل معرفة لا أهمية لأن تستخرج من موضوعها بل من التصور القديم، وتكون حقيقية بقدر ما تكون قديمة أو نقلية.
فالرؤية الدينية هي الحاكمة بعيدا عن ماهية الشيء المحكوم عليه، وفي هذا نفي للذات ولاحتياجاتها وضروراتها (أقرب مثال على ذلك فتوى هيئة كبار العلماء بوقوع الطلاق الشفهي رغم الحاجة لتقييده مع ارتفاع معدلات الطلاق في مصر، وكونها النسبة الأعلى في العالم) وهو ما كان قائما في النماذج المقدمة وفي غيرها.
والخلاصة، أن الأمر لا يتعلق بفتوى هنا وهناك، إنما بالسمات التكوينية والبنيوية الموروثة التي تنتج المعرفة الدينية، والتي جعلت من القهوة خمرة، ومن الحنفية بدعة، ومن الطماطم مؤخرة للشيطان، ولازالت المنظومة الدينية تعاود مثل هذا الإنتاج إلى اليوم معتمدة ذات الآليات والمناهج والتصورات وطرائق التفكير لا تحيد عنها، لتكرس للانحطاط بعد الزعم بتجاوز عصره، وترسخ للتقليد وهي تدعو في حماسة إلى التجديد، وتمارس الإرهاب في مواجهة أي محاولة لتجاوز دائرة التكرار والاجترار، ويبقى النسيان سلاح هذه المنظومة الأمضى ضد مجتمعاتها، لتمضي في سبيلها رغم الإخفاقات ورغم ما ارتكبته في حق شعوبها عبر تاريخ عالجت بعض حوادثه المأساة وعالجت بعضها الآخر الكوميديا السوداء.
مقال تافه، مغلف بمعرفة سطحية، معرفة جرائد، تقوم على اقتناص مواقف بعينها وترك آلاف المسائل التي تتضمنها كتاب الفقه فضلا عن كتب الفتاوى والنوازل ليركز على هذه الأمور التي لا يم يرها الناس غريبة في سياقها التاريخي، إلى أن خرج علينا هؤلاء العلمانيون المتحذلقون ليحدثونا عن العقلية الفقهية. ولكي تكتمل دائرة التفاهة يرجع الكاتب (بما أنه يمسك قلمًا أو يضع أصابعه على لوحة المفاتيح) إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه وخذل منتقصه، لأن الكاتب قرأ كلمتين لنصر أبو زيد فأحب أن يلقي على مقاله بعض تحابيش العمق فزاده ضحالة. هل في منطق هذا الكاتب أن الفقهاء لا يخطئون، ولا يستندون على ما تيسر له من معلومات في وقتهم، وهل من منطقه كذلك أن قضية الحلال والحرام ليست بهذه الأهمية وبالتالي لا ينشغل هو أصلا بما ينشغل به الفقيه؟ أما ترى الكاتب الظريف يدعي أنه لا يخطئ في حكمه على شيء من الأصل؟ مفتي حلب أخطأ، وماذا عن باقي المفتين يا أخ؟ الحنابلة والشافعية والمالكية قالوا حرام، فلماذا لم ترَ أن موقف الحنفية يدل على أن الفقه يمتلك آليات تصحيح واعتدال؟ وماذا عن تجاوز فقهاء المذاهب الثلاثة الأخرى لموقفهم هذا وسماحهم بالحنفية بعد ذلك. لما هاتكون مهتم بآخرتك هاتخاف وممكن خوفك يخليك تحجم عن أشياء خشية حرمتها، والأمر لا علاقة له بالشافعي ولا بعلم الأصول الذي لا تعرف عنه إلا اسمه. ولما تكون عايش بمزاجك، ملحد أو مستهبل، لن تخاف من شيء، وستكتب هذه التفاهات لتنقض جبلا لا تعرف عنه سوى اسمه. حاول تدرس مبحث الدلالة في علم الأصول أو تطالعه، وستكتشف أنك أسوأ ممن سمى الطماطم مؤخرة الشيطان.