“الصحفيون هم هيئة الدفاع أمام محكمة التاريخ، هم الوكلاء الطبيعيون عن ضمير الأمم، وهم جند الحق إذا أخلصوا. إن تاريخ الصحافة هو تاريخ الأمة، وقد عرفت صحافة مصر في الجيل الأوسط من القرن العشرين صحفيين كان التاريخ من صنع أقلامهم”.
هكذا وصف شيخ الصحفيين حافظ أبناء مهنته في كتابه “عمالقة الصحافة” الذين اختار على رأسهم محمد توفيق دياب صاحب ورئيس تحرير “الجهاد”، أحد أهم خطباء عصره، الذي قال عنه الزعيم سعد زغلول “إن في جريدة السياسة من هو أخطب مني وهو توفيق دياب”.
سعد زغلول
خُيّر دياب يوما بين رتبة الباشوية وبين عضوية مجلس النواب فآثر السلطة التشريعية مراقبا وناقدا على رتبة تهديها إليه السلطة التنفيذية، كان يرى الصحافة “أبقى من البرلمانات، بل هي في مصر أبقى من الدساتير”.
نقل عنه الأستاذ محمود فوزي في كتابه “توفيق دياب ملحمة الصحافة الحزبية” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 1987. أنه قال: “ما لهم يحاولون أن يزلزلوا هذه الدعامة الثابتة من دعائم الرأي العام في غير طائل؟”.
أصدر دياب 12 صحيفة وطنية أغلقتها له السرايا وسلطات الاحتلال، ولم يوقفه ذلك عن إتمام رسالته فأصدر جريدة “الجهاد” في 17 سبتمبر 1931، التي لعبت دورا هاما في مواجهة استبداد رئيس الورزاء الأعنف في تاريخ مصر إسماعيل صدقي، فصارت الصحيفة الوفدية الأكثر انتشار وتوزيعا في مصر في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي.
نشأة وطنية
ولد صاحب “الجهاد”، في قرية سنهوت البرك بمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، عام 1888 كان والده موسى بك دياب من رفاق أحمد عرابي وحكم عليه بالإعدام بعد فشل الثورة العرابية ونزعت منه رتبته العسكرية “أميرالاي” ونياشينه، ثم خفف الحكم عليه بتحديد إقامته في قريته.
ختم دياب القرآن في كُتاب قريته، ثم بعث به والده إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة الجمالية الابتدائية، بعدها انتقل إلى مدرسة التوفيقية الثانوية ثم إلى المدرسة الخديوية وتعثر فيها نظرا لتمرده، فنقله أبوه إلى مدرسة رأس التين بالإسكندرية وحصل منها على البكالوريا، ثم عاد إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة الحقوق، ورغم تفوقه فيها ونظرا لطبعيته المتمردة التي أشار إليها الدكتور يونان لبيب رزق في كتابه “المتمرد النبيل” لم يكمل دياب دراسته وطلب من أبيه أن يوفده إلى لندن لدراسة التربية، وهناك اتجه إلى دراسة فنون الخطابة والإلقاء، وبعد مرور خمس سنوات لم يحصل صاحبنا على إجازة رسمية.
توفيق دياب
يوسف وهبي طالب مشاغب
راسل دياب وهو في لندن جريدة “اللواء” لسان حال الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، ونشر له الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس التحرير في عهد الزعيم محمد فريد 14 مقالا افتتاحيا.
عقب عودته من لندن عام 1912، قدمه أحمد لطفي السيد الذي كان يعلم بنبوغ دياب في فنون الخطابة إلى سعد زغلول أمين الجامعة، وتم تعيينه مدرسا للخطابة في الجامعة. أقام أول معهد للخطابة في القاهرة، ومن المفارقات أن يوسف بك وهبي كان من تلاميذ المعهد، وطرده دياب في أول محاضرة لشغبه وتعاليه على زملائه.
وبعد انتشار سيرته، صار دياب خطيب مصر الأول، وذاع صيته لدرجة أن محاضراته أصبحت ببطاقات تباع في شباك التذاكر بمسرح رمسيس (الريحاني حاليا)، ورغم أن سعر التذكرة كان خمسة قروش ألا أن القاعة كانت تغص بالجمهور.
خلال تلك الفترة تنقل دياب بين عدة صحف منها “المقطم” و”الأهرام” و”الأخبار”، ثم عين مترجما للمطبوعات في “الداخلية”، ومراقبا على الصحف الإنجليزية الصادرة في القاهرة أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي سنة 1918 أعلنت الهدنة وألغيت الرقابة على الصحف، وتحولت إلى رقابة على أخبار الوفد المصري في لندن أثناء المفاوضات مع لجنة ملنر، فاستقال من إدارة المطبوعات وعاد للكتابة في جريدة “الأهرام” مساندا ومؤيدا للوفد ولسعد زغلول.
الطرد من البرلمان
انحاز دياب إلى مبادئ “الأحرار الدستوريين” المدافعة عن الدستور والاستقلال، ولبى دعوة أحمد لطفي السيد للمشاركة في تحرير جريدة “السياسة” لسان حال الحزب، ووقع عليه الاختيار ليكون أول مندوب “محرر برلماني” للجريدة عام 1924، ليلحق بزميله محمود عزمي الذي عمل كأول ناقد برلماني. كتب الزميلان تحليلا لجلسة البرلمان الأولى، لم يعجب أقطاب المجلس، فأمر مراقب المجلس بإخراج مندوب “السياسة” من شرفة الصحفيين عنوة، فعاد دياب إلى جريدته ليكتب مقالا بعنوان “شخصي الضعيف وكحيل العين”، وهو المقال الذي حقق له شهرة واسعة، واستمر دياب في نقده لـ”الوفد” والوفديين، وقدم مع زميله طه حسين ومحمد حسين هيكل للمحاكمة أكثر من مرة.
وفي عام 1928 عطلت السلطات الحياة البرلمانية، كان دياب حينها مراقبا عاما لإدارة جامعة القاهرة، وكان ينشر بانتظام في “الأهرام”، كتب مقالا يهاجم الوزارة لأنها انقلبت على الدستور والحرية، فأحيل إلى التحقيق في الجامعة بدعوى أن القانون يحرم على الموظفين الكتابة في الصحف، فرد قائلا: “لا طاعة في عنقي لوزارة تؤاخذني على مخالفة القانون في حين أنها تهدم الدستور”، وقدم استقالته من الجامعة.
صحف “تحت الإغلاق”
في ذكرى عيد الجهاد ألقى دياب خطبة أشعلت حماس المستمعين، فتم اعتقاله والتحقيق معه بتهمة التحريض على الثورة ثم خرج بعد أيام، اعتنق في تلك الفترة مبادئ “الوفد”، ثم أصدر مع صديقه محمود عزمي جريدة “وادي النيل” التي حاربتها حكومة محمد محمود بشتى الطرق وقررت تعطيلها في ديسمبر عام 1928، ثم أصدر جريدة “الشرق الجديد” وعطلت هي الأخرى في يناير عام 1929. بعدها استأجر دياب جريدة “النديم” ثم “المهذب” وعاد لإصدار “الشرق الجديد” مرة أخرى، ثم شارك في تأسيس “اليوم” وعقب إغلاقها شارك في تحرير “الضياء”، وظل بها حتى أصدر في سبتمبر عام 1931 صحيفته “الجهاد”، وجعل شعارها بيت أمير الشعراء أحمد شوقي “قف دون رأيك في الحياة مجاهدا.. إن الحياة عقيدة وجهاد”، وكانت الجهاد ثالث الصحف الوفدية الكبرى بعد “البلاغ” الذي يترأس تحريرها عبد القادر حمزة، و”كوكب الشرق” وترأس تحريرها أحمد حافظ عوض.
حرصت “الجهاد” على الدفاع عن “الوفد” حزبا وأعضاء، تتابع نشاط لجانه ومؤتمراته ومواقف قياداته، وتمتنع عن نشر أزماته، بل تنفيها وتكذبها أحيانا، وهو ما حدث بعد انشقاق 8 من قادة الحزب إثر خلاف على تشكيل وزراة خلفا لحكومة إسماعيل صدقي بتوجيه من السير برس لورين المندوب البريطاني، لتتولى التفاوض مع الإنجليز وإعادة العمل بدستور 1923، وهو ما رحب به عدد من أعضاء الهيئة الوفدية ومعهم الدستوريين، لكن النحاس وباقي قادة الوفد تصدوا لهذه الفكرة، فخرج قادة الوفد الثمانية من الحزب.
كانت “الجهاد” بحسب الأستاذ حافظ محمود، “حدثا جديدا في تاريخ الصحافة العربية، فكانت من أوائل الصحف التي تهتم بالشأن العربي وعينت لها مراسلين في البلاد العربية، وأفردت صفحة كاملة للشئون العربية يوميا، وكان يشرف على تلك الصفحة المناضل السوري سامي السراج. وكان أهم ما يميزها وضعها لمانشيت يومي فوق رأس الجريدة، وكانت تطبع منشتاتها بالألوان.
شاركت “الجهاد” في تعبئة الجماهير والطلبة في المظاهرات التي عجت بها شوارع البلاد عام 1935 للمطالبة بعودة دستور 1923 واستقلال البلاد، ونشرت التفاصيل الكاملة لتلك الثورة، فنقلت بالصور قتل وإصابة المتظاهرين على أيدي الإنجليز، وشاركت في الإضراب العام الذي شمل أنحاء البلاد يوم 21 نوفمبر عام 1935، معلنة الحداد العام على أرواح شهداء الدستور والحرية، واعتبرت هذا التاريخ يوم “الاحتجاج الصارخ ضد السياسة الإنجليزية وضد بقاء الوزارة النسيمية في الحكم”. فتحت “الجهاد” أبوابها للطلبة الذين تعرضوا لرصاص الإنجليز في ميدان الإسماعيلية “التحرير”، وللمصادفة كان من هؤلاء الطالب جمال عبد الناصر الذي صار بعد ذلك رئيسا للدولة.
جانب من مظاهرات الطلبة عام 1935
خلف أسوار السجن
من معارك “الجهاد”، إنها نشرت في عام 1932 صورا لخطابات منسوبة لرئيس الوزراء إسماعيل صدقي موجهة إلى مأموري أقسام البوليس، يطلب فيها منهم تزوير الانتخابات البرلمانية لصالح حزبه “الشعب”، فأمر صدقي بتقديم دياب إلى المحاكمة وتمت محاكمته بصورة عاجلة وحكم عليه بالحبس 6 أشهر مع وقف التنفيذ، وفقا لما أورده زميلنا محمد توفيق في الجزء الثاني من كتابه “الملك والكتابة” الصادر عن دار أجيال قبل أيام.
استمر دياب في الهجوم على صدقي، وكتب مقالا “لا طاعة لحاكم في معصية الدستور”، وسخر في مقال آخر من الطريقة التي يدير بها رئيس الوزراء الانتخابات فكتب “الطبخة الانتخابية تحترق”، ثم هاجم مشروع “سد جبل الأولياء” التي شرعت الحكومة في تنفيذه على النيل الأبيض جنوب الخرطوم وقت أن كانت السودان عمليا خاضعة للسيادة الإنجليزية، واعتبره نكبة على مصر، محملا حكومة صدقي وبرلمانه مسئولية “تلك الصفقة التي لا يقدم عليها مصري، والتي ستضع رقبة مصر تحت السيف الإنجليزي”، محذرا من أن يحبس الإنجليز الماء عن المصريين.
صدر قرار من النيابة العامة بإحالة دياب إلى المحكمة بتهمة إهانة مجلس النواب في مقاله عن جبل الأولياء، وصدر الحكم ببراءة صاحب “الجهاد” في يناير عام 1933، باعتبار أن ما كتبه يدخل في حدود النقد المباح، فطعنت النيابة على الحكم وأعيدت المحكمة، واصدرت محكمة “النقض” حكما بحبس دياب ثلاثة أشهر مع الشغل وغرامة 50 جنيه، وهو ما يعني حبس دياب 9 أشهر بعد إضافة الحكم الذي صدر مع وقف التنفيذ بالحبس 6 أشهر في قضية خطابات رئيس الوزراء عن الانتخابات، نفذ دياب الحكم وتم التنكيل به بتوصية من الحكومة.
صورة عقب صدور حكم بحسبه من محكمة النقض
انتخب دياب مرتين عضوا بمجلس النواب الأولى بالتزكية، والأخرى بعد منافسه شرسة مع صديقه الكاتب فكري أباظة عام 1936.
النهاية
اضطرت “الجهاد” إلى الظهور مسائية منذ 28 فبراير عام 1936، وذلك بعد اضطراب أحوالها وتدهورها، بعد استقلالها عن الوفد، ثم توقفت عن الظهور نحو 7 أشهر في عام 1938، ثم صدر قرار إغلاقها في 28 أكتوبر عام 1939، وكتب دياب في العدد الأخير مقالا بعنوان “وأدت جريدتي بيدي”.
ظل دياب ينشر مقالاته على صفحات “الأهرام”، فلما قامت ثورة 23 يوليو رحب بقيامها، ثم نشر العديد من المقالات في “الجمهورية” بعد تأسيسها عام 1953، إلى أن توقف عام 1960، بسبب ظروف أسرية ومرضية.
أختير دياب عضوا في مجمع اللغة العربية، وأصيب بالمرض في آخر أيامه ونقل للعلاج في لندن، وتوفى “صاحب الجلالة” محمد توفيق دياب يوم احتفال مصر بـ”عيد الجهاد” فى 13 نوفمبر 1967.