انشغل “الإسلاميون” المعاصرون، كما يحلو لهم أن يصفوا أنفسهم، بتحطيم تمثال لهذا الزعيم وذاك القائد وهذا الكاتب والمفكر، وكأن النهضة والتنمية والرفاهية لا تقوم إلا على أنقاض تماثيل رموز محطمة في الشوارع والميادين، وكأن المشروع الإسلامي –في تصور هؤلاء– هو تحطيم التماثيل الفرعونية، في تصرف شاذ يُتخيل معه أن المصريين عاكفون على عبادتها، كما كان كفار قريش عاكفين على عبادة أصنامهم.
من وقت لآخر يخرج أحدهم ليقول بأن التماثيل حرام، مطالبا بهدم الأهرامات وأبو الهول، فيما يزعق آخر طالبا تغطية وجوه التماثيل، ويهدم غيره تمثالًا للزعيم جمال عبد الناصر بسوهاج، ويحرق آخرون تمثالًا للمخرج السينمائي محمد كريم بمدينة السينما، ويهدمون تمثالًا نصفيًا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
يذكرنا هذا بحماقات تنظيم داعش ومن على شاكلته ضد متاحف وآثار العراق وسوريا واليمن وليبيا، بزعم أنها أصنام محرمة يجب هدمها وإزالتها، وهو ما سبقه إليه قبل ذلك بسنوات تنظيم القاعدة وحركة طالبان بتدمير آثار أفغانستان وتراثها الثقافي والحضاري.
تنظيم القاعدة
لم يفرق هؤلاء في فهمهم الضيق بين ما هو فني ومصدر نعمة وخير وبهجة وسعادة وجمال للخلق، وبين ما هو تعبدي يقصد به الوثنية والإشراك بالله في العبادة، والفارق كبير بلا شك.
فقد حرم الإسلام التمثال الذي يعبد من دون الله، وهدم الرسول صلى الله عليه وسلم تلك التي كانت في المسجد بغرض العبادة لخصوصية المسجد، لكن لم يتعد الأمر للذهاب إلى بيوت المشركين لتحطيم ما بحوزتهم وإن امتلكوها بغرض العبادة، فلهم دينهم وللمسلمين دينهم.
في الإسلام تمثالان؛ أحدهما صنم محرم لأنه يعبد من دون الله، والآخر مباح دال على وحدانية الله، قد يصنعه أحدهم ليدل به المتلقي والجمهور على طريق الله، وقد حدث القرآن عن تمثال معجزة دل القوم على وحدانية الله عز وجل: “ورسولًا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله”.
والإبداع معجزة؛ فإذا كان مقصده هداية الخلق إلى الله وجذبهم من خلال جماله وسحر معانيه ومضامينه وإيحاءاته إلى طريق الحق وهداياته فهو الإبداع المنسجم والفن المتسق مع رسالة الإسلام التوحيدية الجمالية، والذي يناقض تمامًا توظيف الفن التشكيلي والنحت في الدعوة للوثنية أو الإباحية، فهذا طريق آخر له مقصد آخر تمامًا غير مقصد الفن الراقي وغاياته.
ويعدد القرآن الكريم أشكال وصنوف عن هذه النعم والإبداعات والمعجزات الموظفة للخير والهداية والتوحيد ويدعو من أنعم الله عليه بها ليشكر هذه الأنعام وتلك الأفضال الجليلة “يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، اعملوا آل دواد شكراً وقليل من عبادي الشكور”.
التماثيل والصور هنا ليست موظفة ومصنوعة للشرور ولم يتفنن في إبداعها من تفنن لتكون صدًا عن سبيل الله والإشراك بالله، فمن يقوم على أمرها وينتفع بها ملك ونبي من أنبياء الله يدعو إلى الوحدانية وإلى الخير والهداية والخضوع لله وحده.
ويذكر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن “المحاريب هي المساجد والتماثيل صور الملائكة والنبيين والعباد لكي ينظر إليهم الناس فيعبدوا ربهم على مثالهم”، فالمقصد الهداية إلى عبادة الله وتوحيده وليس الإشراك به، وعلى محور الغايات والمقاصد تدور الإشكالية وصولًا لتوظيف راق للفنون التشكيلية الحديثة ينسجم مع غايات الإسلام ومقاصده ورسالته ومفاهيمه.
هذا نهج آمن وضامن لسلامة المعتقد والفن معًا؛ فلا يسمح بتسخير الفن والمبدعين والموهوبين لخدمة ومصالح دين بعينه، فتبقى الفنون أسيرة دور العبادة ورهينة إرادات رجال الدين، ولا يقف الفن عند حدود التوظيف الديني والعقائدي، بل ينطلق محررًا إلى آفاق التوظيف الإنساني والكوني الرحب بدون صراع ولا تصادم، بتكاملية مثمرة ومنتجة تصب في مصلحة نفع الإنسان، سواء من الناحية الروحية والإيمانية، أو من ناحية إشباع التذوق بالجمال والإبداع وتغذية العقول بالمعرفة والفكر.
وعندما حطم الرسول صلى الله عليه وسلم الوثن المعبود من دون الله، لم يكن هذا فعلًا موجهًا ضد الفن، إنما ضمانة أبدية ومنعًا للفن أن يوظف في الوثنية؛ أي في غير غاياته وأهدافه ومقاصده العليا اللائقة به، فالرسول بتحطيمه الوثن المعبود حرر الفنون من هذا التوظيف الذي يأسرها ويكبلها مدى الدهر، ولولا هذا التحطيم الجزئي لبضعة تماثيل عبدت من دون الله لما خرجت الفنون من بين جدران المعابد إلى آفاق الحرية الرحبة.
ولأن المقصد هو الأساس في الانطلاق فقد كان هناك فارقًا دقيقًا بين تعامل الرسول مع التمثال الوثن المعبود وتعامله مع الدمى المنحوتة التي كانت تلهو بها السيدة عائشة رضى الله عنها، فالغايات والمقاصد هنا إبداعية جمالية ذوقية، والغايات والمقاصد هناك وثنية إشراكية تعبدية، والفارق كبير بين الغايتين.
كل إبداع وفن لا يدعو لوثنية ولا لإباحية فهو مباح ومطلوب ضروري لنفع الإنسان، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر اقتناء لعب البنات وهي تماثيل منحوتة صغيرة لأن الغاية منها اللعب والتربية والتثقيف، والنبي صلى الله عليه وسلم “خط خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا”
هذه الرسوم التوضيحية إيذان مبكر بانفتاح الإسلام على وسائل الفنون والإبداع المختلفة لتوظيفها في عرض الأفكار وشرح المعاني القيمية العميقة المطلقة من خلال تجسيدها وتمثيلها فنيًا، وتلك الخطوط مع ما صنعه الرسول مع رأس التمثال بالمنزل حيث أبقى على الجسد المنحوت شواهد محددة لضوابط منهجية في إستخدام الفنون في التعبير بأسلوب جانح للتجريد والترميز المبدع الشاغل للخيال المحفز للعصف الذهني، لا للتجسيد والطرح المباشر التقليدي.
ويحفل القرآن الكريم بالتصوير الفني المعجز الذى يحول القيم والمعاني والأخلاقيات المطلقة إلى صور محسوسة وكيانات متحركة في حيوية وجمال مبدع لا حدود له، ومن يتذوق القرآن يشاهد آيات ولوحات الجمال المزدهرة والمزدانة بالألوان والصور الفنية التي تحفز أصحاب الفكر والإبداع وعشاق الفن على اعتماد الفن والتصوير الفني كنموذج ووسيلة مثالية عن التعبير عن القيم والمبادئ العليا.
روى أبو داود فى سننه حوارًا مهمًا ولافتًا بين الرسول والسيدة عائشة رضى الله عنها؛ فقد قال لها يومًا بشأن ألعابها: وما هذا الذي في وسطهن؟ قالت: فرس! قال: ما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان! قال: فرس له جناحان؟! قالت: أو ما سمعت أنه كان لسليمان بن داوود خيل لها أجنحة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
يأتي ذلك الإبداع الذي أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم لدرجة الضحك في سياق التأكيد على إقرار الإسلام الإمعان في توظيف الخيال والجنوح إلى عجائب الفن وغرائبه ومدهشاته التي تحلق بالعقول في عالم الخيال وتصنع البهجة بدهشة الصورة وغرابة إبداعها غير النمطي وغير التقليدي.