منوعات

الاجتهاد الفقهي والاجتهاد السياسي.. حكم الثابت والمتغير

المجتهدون الفقهاء هم الذين أسسوا المذاهب الفقهية التي شاعت بين المسلمين وأصبحت جزءا من تدينهم، فالشافعي(150-204هـ)، كتب الرسالة وبذر حرث علم الأصول واعتبر القياس أحد أهم أدواته في التخريج والسبر والتقسيم وتحقيق العلل، ومالك(98-179هـ) شيخه وأستاذه هو من وضع أسس المذهب المالكي وقضاياه وهو من وضع كتابه الأهم “الموطأ” الذي حاول أن ينهج منهجا وسطا بين ترخص ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشدد ابن عمر بن الخطاب.

الإمام الشافعي والإمام مالك

كان الإمام مالك يفعل ذلك وهو يدرك أن منهجه هو اجتهاد في فهم الشريعة والدين وأن هناك اجتهادات أخري يجب أن تكون محلا للاحترام، وحين اقترح عليه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أن يجعل الموطأ كتابا عاما للأمة كلها رفض لأنه يدرك أن طاقة الأمة الفقهية أكبر من قدرته هو وحده، كما رفض أن يكون نشر مذهبه عبر خيارات سلطوية ودولتية، هو يريده اختيارا من الناس ومن الجماعة دون فرض أو ترويج سلطوي.

كتاب الموطأ للإمام مالك

وأبو حنيفه(80-150هـ) شيخ الجميع ومدرسته هي التي أرست قواعد العقل في فهم الشريعة وهو من أسس قبل الشافعي للقياس، وتلامذته أبو يوسف ( 113- 182 هـ،731 م –798 م)، ومحمد بن الحسن الشيباني( 131هـ –189هـ ) هم من أصبحوا قضاة يقضون ويُفتون ويحكمون بين الناس، ولذا شاع بين المتعلمين للفقه أن من يتعلم المذهب الحنفي سيكون قاضيا للناس.

والإمام أحمد بن حنبل(164-241هـ)، هو من أسس علم السنة ووضع المسانيد وحفظ الأحاديث وتعلم منه علماء الحديث الذين جاءوا من بعده كالبخاري ومسلم وهو تعلم على الشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم.

الإمام أحمد بن حنبل

المذاهب الفقهية هي طرائق للتفكير والاستنباط والفهم للشريعة ولم يقصد أيا من الأئمة الأربعة أن يؤسس مذهبا فقهيا، ولكن طريقته ومنهجه في الاستدلال هي التي جعلت من جاء بعده ينهج نهجها ويسلك سبيلها، ثم شاعت تلك المذاهب بعد اكتمالها بين الناس فصار المصريون شافعية وصار المغاربة مالكية وصار الأتراك أحناف وصار أهل الجزيرة العربية حنابلة مع انتشار بسيط في العراق وبعض الأنحاء الأخري .

وكل الأئمة قالوا بالاجتهاد وإعمال العقل ومراعاة العرف والعادة وعمل بعضهم على المصالح المرسلة والاستحسان وقعدواالقواعد الفقهيه الكلية التي تقول إن المشقة تجلب التيسير، وإن الضرر يزول وإن الأمور بمقاصدها وإن الشك لا يزول إلا بيقين.

ومن ثم فإن الاجتهاد الفقهي يجب أن يظل مفتوحا لا يُقال إن باب الاجتهاد قد أُغلق، ولأهل الاجتهاد الفقهي مذاهبهم وطريقتهم التي تطور وتنفتح وتبدع في سياق القواعد الكلية والمسارات التي اتخذها الفقهاء الأئمة الذين اجتهدوا للأمة ولم يجتهدوا في مواجهتها.

هنا نميز بين الاجتهاد الفقهي السابق الذي يتسم بقدر من الثبات، وبين ما نطلق عليه “الاجتهاد السياسي” المفتوح على مصراعيه والمتحرر مما كتبه السابقون.

نقصد هنا بالاجتهاد السياسي ما كتبه الأقدمون في قضايا الحكم والسياسة كما في كتب الأحكام السلطانية، وفي قضايا الاقتصاد كما هو مبسوط في كتب الأموال والخراج، وفي قضايا التعامل مع العالم ومع الآخر ومع البلدان المفتوحة وأهلها ومع الغنائم والأنفال فيما يٌعرف بالسير الكبير والسير الصغير، ومع مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودوائر السلطة والمسئولية والحديث عن قيام آحاد الناس بذلك كما هو مبسوط في أبواب السياسة الشرعية وقضاياها ومسائلها.

يدخل في ذلك بالطبع كما أكدنا ونؤكد دوما – مسألة الخلافة وطريقة انتقال السلطة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر ومنه إلى عمر ومنه إلى عثمان ثم علي، والحديث بالطبع في كتب القدامى عن نظم الإدارة والولايات وطرق تسيير الجيوش وتنظيمها وإدارتها. نحن هنا أمام اجتهاد سياسي مفتوح للعصر وللإنسان في ذلك الوقت، واجتهاد الأقدمين في هذه القضايا التي تدخل في معنى الاجتهاد السياسي، لا يلزمني كباحث معاصرأو صانع قرار أو مجتهد في مجال النظم السياسية أوالإدارة أو العلاقات الدولية بأي حال من الأحوال.

فما كتبه أبو يوسف للخليفة العباسي هارون الرشيد في كتابه “الخراج” لتنظيم قضايا الاقتصاد وطريقة التعامل مع الخراج والأراضي لم يعد صالحا الآن، لأن نظام الاقتصاد تغير، ونظام الأراضي وملكيتها لم يعد كما كان في القرن الثاني الهجري.

كتاب الخراج لأبو يوسف

وهكذا الأمر في قضايا السلطة والنظم السياسية لم تعد تصلح اليوم لأن الدولة الموجودة الآن مختلفة عن الدول السلطانية القديمة، والمدن الكبرى والحواضر الضخمة التي يسكنها الملايين اليوم لم تكن موجودة من قبل.

إقبال الناس على المعلومات والمعرفة وإتاحتها لهم لم تكن متوافرة من قبل، ما أتاح لهم طرقا جديدة في التعبير والتفكير والتنظيم وأصبح الإنسان الفرد الذي يطلق عليه المواطن هو محور الوجود السياسي والاجتماعي في علاقته بالدولة والمجتمع، وتلاشت النظم الاجتماعية القديمة التي كانت القبيلة هي الحاكم فيها وكان وجهاؤها وزعماؤها هم الذين يقررون لأفرادها، ولم تكن للفرد قيمة كبيرة فلا يستطيع مخالفة قرارات زعماء قبيلته، كل ذلك انتهى ولن يعود بحكم استمرار مسار التحضر والتمدين والتحديث.

إذن نحن أمام عصر جديد وإنسان جديد وعالم جديد، والقول إننا يجب أن نعود إلى ما كانت عليه سيرة سلفنا الأولين في نظم الاجتماع والسياسة والتحضر والعمران ونظم الحكم والإدارة والاتصالات وإدارة الصراعات وبناء التوافقات والعلاقات مع العالم المعاصر ومع الآخر في الداخل والخارج هو ضرب من المحال لا يتفق مع الشريعة وتعاملها المتطور والدائم مع الواقع المتغير، ولايتفق والحال المتبدل الذي لا يستقر مع تطور العلوم على سيرة واحدة ومسار ثابت.

وإذا كنا نقول بأن الاجتهاد الفقهي في قضايا ما لا يتغير في مسائل العقائد والعبادات والأحوال الشخصية وماهو مجمع عليه في قضايا المعاملات يتسم بالثبات بحكم طبيعته الثابتة، فإن قضايا السياسة والاجتماع ونظم الحكم والإدارة تحتاج لاجتهاد سياسي متجدد لا يتوقف أبدا بحكم طبيعته المتغيرة دائما.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock