عندما ظهرت حنة آرندت في حياة الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر كان في السادسة والثلاثين، متزوج وله ولدان، بينما لم تتخط آرندت الثامنة عشر. الطالبة المحبة للفلسفة سمعت عن تميز مدرس الفلسفة بجامعة كونيكسبريغ فرغبت في دراسة الفلسفة على يديه.
حبها للفلسفة سرعان ما تحول لمدرسها، الذي بادلها نفس مشاعر، فأرسل لها رسالة في فبراير 1925، يعبر فيها عن رغبته في إقامة علاقة خاصة تكون “بسيطة وصافية”، معلنا لها أنه وإن كان لن يستطع امتلاكها لكنها ستنتمي إليه أبدا.
سارت العلاقة بينهما كما قدر لها فيلسوف علم الوجود، وتوالت بعدها الرسائل بين الحبيبين، أعقبها لقاءات جرت خلسة، بعيدا عن أعين الزوجة. مثلت تلك الفترة من حياة هيدجر أخصب وأسعد سنوات عمره، حيث أصدر عمله الأهم “الوجود والزمن”، ليتألق نجمه أكثر فأكثر، وتقوى أواصر المحبة بينه وحنة، إلا أنه اضطر أن يطلب منها الانتقال إلى جامعة هيدبرغ في عناية صديقه الفيلسوف كارل ياسبرز؛ بعد أن اكتشفت زوجته ما بينهما.
مارتن هيدجر مع زوجته وابنيه
الحب الذي جمع آرندت وهيدجر لم يخضع لمذهب باسكال بأن “للقلب أسبابا لا يعرفها المنطق”، فحنة عشقت من عرَّفها على “إمكانية تعلم التفكير”، الشخصية الكاريزمية الآسرة، صاحب البيان والنزوع الإبداعي المتوهج، وعن ذلك سجلت آرندت اللقاءات الأولى بقاعات الدرس “كان يكلم كنوز التراث التي كنا نظن أنها اندثرت.. إن فكر هيدجر قد ساهم في تحديد الشكل الروحي للقرن”، مقرة بما له من فضل في لغة حملت قدرا كبيرا من الانبهار والتقدير لمكانته “علّمني هيدغر أن أرى العالم وأفهمه.. لقد قادني إلى ذاتي نفسها…. لقد أيقظ هيدغر فيَّ كل المعاني للحياة”.
أما الفيلسوف الكبير فقد أغرم بالفتاة المفعمة بالحيوية والنشاط التي تصغره بسبعة عشر سنة، صاحبة الجمال الهادئ والذكاء الوقاد، ليأنس بها ويجد فيها القارئة القادرة على استيعاب كل أفكاره وفلسفته شديدة التعقيد، ويعترف لها كونها الوحيدة التي فهمته.
لم يسطر هيدجر مؤلفا في فلسفة الحب وإن عبَّرعن تصوره للحب متضمنا في رسائله لآرندت وفي شذرات على هوامش كتاباته، فكتب في إحداها يقول: “الحب هو مساعدة الآخر الذي نحب، للوصول إلى الوجود بطريقة يجد فيها نفسه”، وهو تصور قريب الشبه مما سطرته آرندت ذات مرة متحدثة عن هيدجر: إنني لا أحبه هو، لكن شيئا فيه، ليس موجودا فيَّ”.
حنة آرندت في مراحل سنية مختلفة
كأن الحب عند الاثنين لم يتعلق بالمحبوب بقدر ما استهدف الحب ذاته، لكن بغض النظر عن رؤيتهما للحب فقد جمع الفيلسوفان علاقة فريدة كانت قادرة على تخطى ما اعترضها من عقبات، أولها كون هيدجر متزوجا، الأمر الذي دفعهما لتغليف علاقتهما بالسرية، وتبدى ثانيها عند وصول الحزب الاشتراكي الوطني النازي للحكم، وتصعيد الفيلسوف الكبير ليصبح مديرا للجامعة.
أفكار هيدجر ورؤاه كانت تتوافق والنظام الجديد وتدعم توجهاته، ومنها ما كان معاديا لليهود، فكتب على سبيل سنة 1929 يقول “لقد أغرق اليهود والانتهازيون كل شيء”، وكان دائم الإشادة بـ”إبراهام إي سانت كلارا” القومي المتعصب، الذي دعا على الدوام إلى التخلص من اليهود وإبادتهم، كما انضم للحزب النازي ورغم تركه لمنصبه في الجامعة الذي تولاه لعدة أشهر بعد وصول الحزب للحكم، لكنه ظل يعمل في خدمة النظام، حيث شارك في أكاديمية أساتذة الرايخ في عام 1934، هذا في وقت كانت تعاني فيه محبوبته آرندت لكونها يهودية ليجري اعتقالها (1933)، فتضطر للهرب إلى فرنسا، ومنها إلى الولايات المتحدة.
لم تحقد الفيلسوفة المحبة على حبيبها، وربما أقنعت نفسها بما ساقه لها من نفي لتلك الوصمة في إحدى رسائله التي انقطعت عنها مدة سبعة عشر سنة، عاشتها في الولايات المتحدة، وقد تزوجت قبل هروبها من أحد تلامذة هيدجر إثر يأسها من أن تأخذ علاقتها بهيدجر مسارا رسميا، ففي إحدى رسائله أكد لها أنه لن يستطع التخلي عن زوجته، وعندما أخبرته أنها ستتزوج أحد تلامذته “غونتر شتيرن”، لم يحرك ساكنا، وتمنى لها السعادة.
بجانب ذلك كان لهيدجر نشاطا إيروتيكيا فائقا، لم يخف عن آرندت كما عن زوجته، فقبل آرندت كانت هناك طالبة تدعى صوفي، ثم الأميرة مارغوت ساكسن ـ ماينيغن، وأندريا فون هاربو وأخريات، وكان الفيلسوف الأبرز في القرن العشرين يرجع تعدد علاقاته إلى الإيروس، إله الحب والجنس في الميثولوجية، الذي يتقصده بنشاطه، ولم يمانع هيدجر حيث كتب يقول: إن رفرفة هذا الإله تضربني مع كل مرة أنجزت فيها خطوة مهمة في تفكيري، إنه يقودني إلى المسارب غير الآهلة”.
“أصول التوتاليتارية” المؤلف الأشهر لآرندت
بعد وصولها الولايات المتحدة نشطت آرندت في الحركة الصهيونية، وأعلنت دعمها لإسرائيل، لتشرف على نقل العشرات إلى الدولة الوليدة، وإن تراجعت عن موقفها الداعم للدولة العبرية بعد ذلك، لتهاجمها، متوقعة زوالها. في تلك الفترة أيضا التحقت باليسار الأمريكي، وتزوجت للمرة الثانية الناشط الثوري هنريتشن بولوخر، ونشرت العديد من الأعمال منها: عملها الأشهر “أصول التوتاليتارية”، و”إيخمان في القدس: تقرير في ابتذال الشر”، و”في الثورة”، و”في العنف”..
استطاعت آرندت أن تحقق شهرة واسعة عبر نشاطها السياسي ومؤلفاتها الفكرية بعد الهجرة، في حين تعرض هيدجر للحصار إثر هزيمة النظام النازي، فمُنع من التدريس واعتزل في بيته، ثم كان اللقاء في خريف 1949 بعد فراق دام سبعة عشر سنة.
كانت المقابلة تحت إشراف الزوجة أو “رئيسة حبيبات هيدجر” كما وصفتها آرندت، وبالتأكيد لم تكن ودية ولا مريحة لأي من أطرافها الثلاثة، وكتبت آرندت لزوجها تقص عليه ما حدث: أعتقد بأنني ما دمت على قيد الحياة، فإن زوجته مصممة على إغراق كل اليهود.. لا يمكن فعل أي شيء، إنها سخيفة سوداء، لكن سأحاول أن أرتب الأمور في حدود الممكن”، بادلتها آرندت مشاعر السخط، فاعتبرتها امرأة غير مثقفة، لا تدرك قيمة زوجها ولا تبالي بعمله، في حين قامت هي بعد عودة المياه إلى مجاريها بالإشراف على ترجمة أعماله إلى الإنجليزية، وكانت المسئولة غير الرسمية عن كل ما يتصل بها مع دور النشر.
توالت بعدها اللقاءات بين الحبيبين، بعضها بحضور الزوجة، ومنها ما كان سريا، ولم تحل عودة آرندت إلى الولايات المتحدة دون أن تلتقي بهيدجر بين الحين والآخر مع كل مرة تزور فيها أوروبا.
انقضت هذه الفترة من علاقتهما يحدوهما الأمل في اللقاء بعد الغياب المتكرر لحنة لظروف إقامتها في الولايات المتحدة، واستمرت تلك الوتيرة حتى وفاة آرندت في أغسطس 1975، ليرحل هيدجر بعدها بتسعة أشهر (مايو 1976)، ويخلف الفيلسوفان حكاية أخرى بجانب قصة نشاطهما الفكري المرموق، قصة رأت فيها أنطونيا غرونينبيرغ أنها جسدت الحب بكل جوانبه: الإيروتيك والاندهاش والوفاء والخيانة والشغف والروتين والتصالح والنسيان والتذكر وحب العالم..”.
النداء
“في الممر البعيد للقرب
أسكن،
لحظاتها المتوحشة
نظرتها اللطيفة
في البخت المابعد الأزلي
إنها تكون ملك
الذين يسمعون النداء:
إن “الهدية!”
تختبيء
تعلن عن نفسها
في مفصل الكينونة”.
(أبيات شعرية كتبها هيدجر في آرندت)