منوعات

درس 1805.. عندما رضخت الأستانة لإرادة المصريين

قد لا يدرك هذا الجيل الذي ظهرت ملامحه ضمن وقائع ما جرى في 25 يناير 2011 ثم انطفأت جذوته وراح كثير منهم يتخبط في يأسه واحباطه أن الشعب المصري لا يمضي على أجندة أحد، فهو له أجندته الخاصة وتحمل جيناته “كاتالوجه” شديد الخصوصية. الأسوأ أن كثيراً ممن يتصورون أن الشعب يجب أن يثور طبقاً لمواقيتهم، وأن يتحرك على إيقاع يضع بعضهم ألحانه، قد أوصلهم مثل هذا التصور الخاطئ إلى الكفر بالشعب واتهامه بالخنوع، وهي تهمة يثبت التاريخ القريب ـ قبل البعيد ـ خطأها، ويثبت أيضاً أن مثل هؤلاء عليهم أن يدرسوا تاريخهم قبل أن يصدروا مثل تلك الأحكام المعلبة، أو يرددوا مثل تلك المقولات الجاهلة.

الرجوع إلى صفحات التاريخ قبل قرنين يكشف أن مصر كانت في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر تبحث عن ذاتها، وتتطلع إلى تفعيل المشاركة الشعبية في حكم البلاد، وكانت الوثيقة[1] التي وقعها زعماء الشعب وعلماؤه مع قادة المماليك بحضور الوالي العثماني ومباركته قد شملت بعض حقوق العامة وواجبات الحكام، وكانت هي البداية على طريق مشوار طويل، ظلت الحركة الوطنية تناضل من أجله على مدار قرنين من الزمان.

كان عصراً بكل ما فيه يؤذن بالرحيل، وكانت بوادر عصر جديد تبشر بالبزوغ، وجاءت الحملة الفرنسية التي حطت على الشواطئ المصرية في الثاني من يوليو سنة 1798 لتفتح فصلًا جديدًا في تاريخ مصر، وكانت بطولات الشعب المصري هي التي أرغمت الحملة على أن تحمل عصاها وترحل من البلاد بعد أقل من ثلاث سنوات. وكان لما تركته تلك الحملة من أثر وما أفضت إليه من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية، ثم ما جرى من بعد حيث هبَّ الشعب من أجل خلع الوالي العثماني وتولية محمد علي الألباني حكم مصر، كان لذلك كله مساهمة ملحوظة في وضع أسس الدولة المصرية الحديثة.

محمد علي

حملة نابليون

أتى نابليون إلى مصر ـ التي وصفها بأنها “أم الدنيا” ـ طمعًا في السيطرة على موقعها الاستراتيجي الفريد الذي يمثل معبرًا بين شرق المعمورة وغربها، وكان يتطلع إلى تضييق الخناق على بريطانيا العظمى غريمته الرئيسية في صراعه من أجل الهيمنة على مقدرات القارة الأوروبية.

كان نابليون يتطلع إلى إقامة إمبراطورية كبيرة في الشرق تكون قاعدتها دولة حديثة في مصر، وبعد انتصاره على المماليك والعثمانيين أقام الديوان العام، وأعلن في فرمان قواعد النظام الجديد، أن الغرض من عقد الديوان العام هو تعويد الأعيان المصريين نظم المجالس الشورية، والحكم، ودعوتهم لاستشارتهم ومعرفة آرائهم فيما يعود على الشعب بالسعادة والرفاهية.

نابليون

تصدى المصريون لقوات نابليون ببسالة وشجاعة، بعد هزيمة المماليك بسيوفهم الصدئة أمام مدافع جيش نابليون، وثارت القاهرة مرتين على الوجود الفرنسي في مصر، فقامت هبّتان شعبيتان جارفتان في القاهرة، أقضتا مضجع الفرنسيين، وأظهرتا لهم أن بقاءهم في مصر باهظ التكلفة، لاسيما مع فشلهم في السيطرة على صعيد مصر، الذي خاض أهله نحو 22 معركة ضد الحملة الفرنسية، علاوة على بعض حركات التمرد والمقاومة التي شملت الصعيد برمته.

شأنه في ذلك شأن أي احتلال أجنبي، فطن نابليون إلى صعوبة حكم بلد محتل بقوة السلاح فحسب، وأدرك أنه يحتاج إلى تعاون طوائف من أهل مصر لإدارة شئون البلاد، فأسس مجموعة من الهيئات والمجالس للإشراف على حكم البلاد بمشاركة أعيان ومشايخ المدن والقرى المصرية، وذلك لاسترضائهم من ناحية، ولخلق مصلحة لهم في بقاء المحتل الفرنسي وللحفاظ على الاستقرار في أنحاء القطر المصري من ناحية أخرى.

من أهم المؤسسات التي قامت في ظل الاحتلال الفرنسي ما كان يعرف بالدواوين التي تكونت من عدة أعضاء من المشايخ والأعيان والعلماء، وكانت تقدم المشورة والنصح للحاكم العسكري الفرنسي، ثم تأسس في سبتمبر سنة 1798 ديوان عام بعضوية 180 من أعيان القاهرة ومختلف المديريات بالإضافة إلى كبار التجار والعلماء.

استمر حكم مصر على هذا النحو إلى أن هُزمت الجيوش الفرنسية على يد البحرية الملكية البريطانية وجيوشها البرية التي عقدت العزم على منع فرنسا من السيطرة على الموقع الجغرافي المتميز لمصر الذي يتيح لها تهديد درة التاج البريطاني في الهند، وبعد سلسلة من الهزائم العسكرية، انتهى الوجود الفرنسي في مصر بانسحاب الجنرال “مينو” قائد القوات الفرنسية في مصر من الإسكندرية في أواخر أغسطس سنة 1801.

من صور الحملة في مصر

بشاير الاستقلال

حين اضطرت الحملة الفرنسية إلى الرحيل عن مصر كان المماليك (الذين فشلوا في مهمة الدفاع عن مصر) يستعدون للعودة إلى التحكم في مقدرات البلاد والعباد، وكان العثمانيون على أبواب مصر ينتظرون لحظة العودة إليها، وكان الشعب يتطلع إلى عصر جديد، ويستعد للقتال في سبيله.

ومع انسحاب القوات الفرنسية، عادت مصر إلى الولاية والسيادة العثمانية، فعُين سلسلة من الولاة العثمانيين على مدار السنوات القليلة اللاحقة على انتهاء الحملة الفرنسية، إلا أن هؤلاء الولاة فشلوا في فرض نفوذهم واستعادة الاستقرار في مصر بسبب تنافس طوائف وقوى، أجنبية ومحلية، على بسط هيمنتها على البلاد، فسعى أمراء المماليك لاستعادة المكانة التي كانوا يحتلونها قبل الحملة الفرنسية، وعملت الإمبراطورية العثمانية على الانفراد بحكم مصر دون الحاجة لاقتسام السلطة مع أي طرف آخر، وخططت قوى أجنبية ـ كبريطانيا ـ  لتأمين مصالحها الجيواستراتيجية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط من خلال دعم حلفاء لها على المسرح المصري، فيما راود بعض القوى الشعبية المصرية حلم تحقيق قدر من الاستقلال لمصر والابتعاد بها عن نفوذ المماليك بفسادهم وبطشهم وهيمنة القوى الأوروبية بحلفائها وجيوشها. وبالفعل توحدت قوى الحركة الشعبية التي تصدت للحملة الفرنسية وتحالفت مع محمد علي، ذلك الضابط الألباني الأصل الذي قاد إحدى فرق الجيش العثماني في مصر، وقاما معًاً بأول وأهم محاولة لتكريس مبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه، عبر عملية مزدوجة استهدفت عزل الوالي العثماني وتولية أحد القادة العسكريين التابعين للدولة العثمانية خلفاً للوالي المعزول.

عزل الوالي

لم يكد الوالي العثماني يستقر في قلعته، ويعود المماليك إلى قصورهم ونفوذهم حتى هبت جموع الشعب المصري مرة أخرى تحت قيادة واعية من علمائها، وكان الهدف هو عزل خورشيد باشا الوالي العثماني بعد أن رفض تلبية مطالب الشعب التي عرضها عليه الزعماء الثلاثة، عمر مكرم نقيب الأشراف، وأحمد المحروقي كبير تجار القاهرة، والشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر.

الشيخ عبد الله الشرقاوي

كانت لهم ثلاثة مطالب: أولًا: رفع المظالم عن الشعب وعدم جباية أموال جديدة،. ثانيًا: أن يقيم الجنود في الجيزة بعيدًا عن العاصمة، ولا يسمح لهم بدخول القاهرة ومعهم أسلحتهم رغبة في التخلص من شرورهم، ثالثًا: فتح طرق المواصلات بين القاهرة والصعيد. ولكن خورشيد باشا رفض تلك المطالب، عندئذ قرر الشعب بزعامة عمر مكرم والمحروقي وعبد الله الشرقاوي عزل الوالي وطرده من منصبه وتولية محمد على مكانه. ويصف الجبرتي ما وقع بين محمد على والمشايخ، حيث قال الجبرتي: قال عمر مكرم نيابة عن زعامات الشعب: «إننا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا، ولابد من عزله من الولاية»، فسألهم محمد على: «ومن تريدونه يكون واليًا؟»، قالوا: «لا نرضى إلا بك واليًا علينا، بشروطنا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير». لكن محمد على امتنع أولًا ثم رضي فأحضروا له «كركًا» وعليه قفطانًا، وقام السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي فألبساه له وقت العصر ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة، لكن خورشيد باشا رفض اعتزال الحكم نزولًا على إرادة الفلاحين، فحاصره محمد على والجند الألبان في القلعة، وتكاثرت الجماهير حولها، وظل خورشيد سجينًا حتى أصدر السلطان فرمانا بعزله في 9 يوليو سنة 1805.

عمر مكرم

الأمة مصدر السلطات

في11 من أغسطس سنة 1805 غادر خورشيد باشا دار عمر مكرم متجها إلى ميناء القاهرة النهري في بولاق، وأقلعت السفن تحمله مع حريمه وأتباعه وأمتعته، وبرحيله توج الشعب كفاحه بإعلاء كلمته وفرض إرادته على الدولة العثمانية، وفي 13 ربيع الآخر 1220 هـ ـ‏ 10‏ يوليو ‏1805‏ م، تلي فرمان السلطان الذي جاء فيه: “تلبية لرغبات الشعب‏‏ عين محمد علي قائم مقام لمصر المحروسة”‏. جاء الشعب لأول مرة بالحاكم الذي ارتضاه لنفسه وعلى شروط اشترطها عليه، وبعدما أخذوا عليه العهد والمعاقدة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم وألا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه. وكانت هذه أول مرة يقرر فيها زعماء الشعب مبدأ دستوريا مهما وهو حق الأمةِ في تعيين من يحكمها، ولم يجد السلطان العثماني بدًا من إقراره بالحكم الجديد نزولًا على إرادة الشعب ورغبته.

وكان من ضمن ما جاء في الوثيقة المصرية التي كانت تحمل توقيع العلماء وقدموها لخورشيد فرفضها ثم لمحمد على فقبلها، نصٌ على أنه “تم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم، وألا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه”، وهو يتضمن المبدأ الدستوري الأساسي بأن “الأمة هي مصدر السلطات”. كما تضمنت شروط الشعب التي وافق عليها محمد علي نصًا يتضمن مبدأ دستوريًا آخر هو عدم إنشاء أية ضريبة دون موافقة الشعب ممثلًا في زعمائه المشايخ والأعيان، وهذا النص صورة للمبدأ الدستوري المعروف أنه “لا ضريبة بدون قانون” يعرض على ممثلي الشعب.

وقد وصف أحد رجال السياسة في فرنسا “الوثيقة” التي تولى محمد على الحكم على أساسها، وتضمنت شروط المشايخ، بأنها تشبه وثيقة قانون الحقوق الإنجليزية التي أقرها البرلمان الإنجليزي في سنة 1689 عقب الثورة التي قام بها الشعب الإنجليزي في سنة 1688، وتعتبر هذه الوثيقة من بين القواعد التي قامت عليها حرية الشعب الإنجليزي، وأعلن فيها أن حق الملك في العرش مستمد من إرادة الشعب الممثل في البرلمان، وأن البرلمان له حق نقل التاج وفقًا لمصلحة البلاد، وأنه لا يجوز للملك أن يفرض الضرائب بدون موافقة البرلمان.

حين نزل خورشيد باشا من القلعة كانت صفحة تعيين الوالي بإرادة السلطان العثماني تُطوى، وفتح التاريخ صفحة جديدة، وبدا أن مصر تخطو خطوة واسعة باتجاه تحقيق دولة حديثة، للشعب فيها كلمة مسموعة. ولكن ـ وكالعادة ـ ليس كل ما يتمناه الشعب يدركه.

[1] راجع مقالنا على موقع أصوات

أول «ماجنا كارتا» مصرية.. حصاد ثورة يوليو 1795

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock