منوعات

سمير أمين ..وأنا

رحل أمس عن دنيانا المفكر المصري الكبير سمير أمين.. الذي كانت أفكاره منذ الستينات محورا للحوارات العميقة بين علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة ليس في مصر وحدها ولكن في العالم كله خاصة افريقيا وامريكا اللاتينية واوروبا والصين وروسيا والهند..تميز سمير أمين من بين ما تميز به بقدرة عالية على تطوير أفكاره وعدم تجميدها، وبتفضيله الاستماع الى الآخرين على الانفراد بالحديث وتحويل الآخرين الى مجرد مستمعين أو حواريين.. كان سمير امين متواضعا للغاية وكثيرا ما اعترض على كلمات المديح وطلب تجاوزها والدخول مباشرة في الموضوع.. وطبيعي ربما لكونه اوروبي التربية لم يكن أبدا حريصا على أن يناديه أحد بلقب دكتور، وكثيرا ما كان يطلب أن نناديه باسمه المجرد بدون القاب..

مررت بسمير أمين في عدد من المراحل الهامة في حياتي.. وكان له أبلغ التأثير في مجراها حتى ولو كان بدون قصد …

كان الاحتكاك الاول في 1974 عن طريق البريد والتلكس.. باختصار تقدمت أنا وزميلتي سلوى العنتري للحصول على منحتين دراسيتين في معهد االامم المتحدة للتنمية في داكار الذي كان يديره سمير امين. تم قبولنا مع آخرين على أساس أن تبدأ الدراسة في أواخر ديسمبر 1974 لنحصل على ما يعادل الماجستير في التخطيط الاقتصادي.

 كنت وسلوى قد اتفقنا على الزواج وبدأنا في استعادة علاقتنا باللغة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة، ولما تحدد موعد السفر بدأنا نتعاطي الادوية التي تمنحنا مناعة ضد مرض الملاريا،  وقررنا أن نتزوج قبل إعداد الشقة، وقبل السفر بأسبوعين أو ثلاثة…وكانت المفاجأة قبل السفر بأيام هي تلكس من المعهد يفيد بتأجيل الدراسة لعدة اسابيع لأن أمريكا قررت وقف دفع حصتها في تكاليف المعهد الذي يقوم باعداد المخططين الأفارقة، ولكنه يهاجم ايضا السياسات الاقتصاديةالامريكية والغربية .

 بعد التأجيل لم تستطع إدارة المعهد، ولا اللجنة الاقتصادية للأمم المتحده، ولا منظمة الوحدة الافريقيية توفير التمويل اللازم للمعهد فتم الغاء العام الدراسي وتحويل نشاط المعهد الى نشاط تدريبي .. كان المكسب الحقيقي أننا تزوجنا مبكرا، وإن لم نسافر مطلقا لداكار..

أتاحت مؤتمرات الاقتصاديين المصريين منذ 1976 امكانية رائعة للالتقاء بسمير أمين، الذي كان حريصا على المشاركة في معظم السنوات سواء بتقديم دراسة أو التعقيب على دراسة أو مجرد المناقشة والحوار من القاعة.  كانت المؤتمرات مناسبة يقترب فيها الأساتذة العظام من الباحثين الجدد.. الأساتذه هم الذين يركزون أسماعهم وأبصارهم،  ويلتقطون الباحثين الجادين ويجرون معهم حوارات ربما يكون موضوعها مداخلاتهم القصيرة، أو حواراتهم الجانبية في المؤتمر الذي كان يستمر 3 أيام كاملة مضنية ولكنها مليئة بالفرص والمكاسب.

كانت اللقطة الثالثة هي لقاءات متناثرة في باريس منذ 1982 نظمها أصدقاء أعزاء من الباحثين المصريين في باريس خاصة أخي مصطفى، وابنة خالي علياء، وكلاهما له علاقة علمية قوية بسمير أمين أثناء اعدادهما للحصول على الدبلومات العليا والدكتوراه .

ومع انتهاء سلوى العنتري من إعداد رسالة الدكنوراه في جامعة باريس عن ” أثر النشاط المصرفي العربي في تكريس اندماج الاقتصاديات العربية في النظام الرأسمالي الدولي”.  اقترح البروفيسور “ميشيل بو” المشرف على الرسالة أن تكون لجنه المناقشة برئاسته وعضوية الدكتور سمير أمين، والدكتور محمد دويدار، وأستاذ فرنسي آخر، وبعد أن تمت كتابة اسم سمير أمين وتسلمه نسخة من الرسالة، قامت الجامعة بتحديد موعد المناقشة ليكون في توقيت غير ملائم بالنسبة لسمير أمين حيث تبين أنه سيكون في زيارة لجنوب شرق آسيا… وبالتالي اختارت الجامعة أستاذا أخر، وبقيت لدي سمير امين ولدينا نسخ من الرسالة مكتوب عليها انه عضو لجنة المنتاقشة، إلا أنه أجرى مناقشة مبسطة للرسالة فيما بعد اثناء حضوره حفل عشاء أقيم على شرف المشرف على الرسالة وبعض أعضاء لجنة المناقشة. .

اللقطة الخامسة شديدة الاهمية والكاشفة عن جوهر سمير أمين.. هي عندما قررت مجموعة من الجمعيات العلمية الدولية والمصرية الاحتفاء بسمير أمين بمناسبة مرور 80 عاما على مولده، ونظمت احتفالا كبيرا ومتميزا يليق به في خريف 2011، استغرق الاحتفال 4 أيام على باخرة بين الاقصر واسوان يقوم فيها نحو 25 باحثا منهم 10 باحثين من مصر والباقي من دول افريقيا، وأوربا، وآسيا وأمريكا اللاتينية بمناقشة أفكار سمير أمين بخصوص التطورات الراهنة في النظام الدولي،  وما يتيحه من فرص لدول العالم الثالث أو ما يلقيه عليها من تحديات .. وكان من حسن حظنا أنا، وسلوى أن تم اختيارنا لنشارك في هذه الاحتفالية الهامة لنستمع ونناقش ونشاهد ونعرف ونتعلم.

كان الحوار يستمر يوميا لنحو 8 ساعات مقسمة على جلستين طبقا لبرنامج يسمح للكل بالتحدث دون مقاطعة في كل النقاط المٌثارة، و كان أمين هو الأكثرحرصا من بين الحاضرين جميعا على انعقاد الجلسات في مواعيدها، وامتدادها لما بعد الوقت المقرر، بل وكثيرا ما اقترح تأجيل تناول وجبة الغذاء حتى ينتهي الكل من ابداء رأيه، أو احضار الوجبة وتناولها أثناء الحوار..

طاقة رهيبة وعقل منظم ورغبة جارفة في الاستماع للآخرين، وربط التفاصيل الصغيرة ببعضها البعض لبلورة رؤية أو موقف أو وجهة نظروقدرة عالية على طرح الاسئلة لاستكمال الصورة، وعقد المقارنات بين أوضاع الدول والمجموعات الدولية، أو تطور الأوضاع عبر الزمن، لم يكن سمير أمين يتقبل فعلا كلمات المجاملة والاشادة ولم يفرق في معاملته للحاضرين بين أستاذ كبير مرموق وبين باحث شاب في مطلع حياته البحثية.

أمس رحل سمير أمين بجسده تاركا منهجه وأفكاره التي ملأت فضاء الكون ضجيجا وحوارات، وأثرت الفكر الاقتصادي والاجتماعي العالمي ، ستبقى هذه الأفكار لتقول أن مفكرا عظيما كان هنا وطرح أفكارا خطيرة لتحقيق حرية وكرامة الشعوب المقهورة، وأنه حرص دائما على مراجعة أفكاره وتطويرها وعلى فهم الواقع في أدق تفاصيله.. لكي لا يكون كلامه قفزة مجردة في الفضاء

مع السلامه يا سمير أمين وربنا يرحمك ويحسن اليك وشكرا لك على ما قدمت لنا … وهو كثير

محمد نور الدين

باحث في الشؤون الاقتصادية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock