كان القبطي مكرم عبيد أحد رفاق سعد زغلول ومن قادة حزب الوفد. نال شهادة القانون من أوكسفورد، وعمل وزيراً للمالية. قال فيه الأستاذ حقي محمود بك إنه الوحيد الذي كان يحمل 250 نائباً على الجلوس في مقاعدهم. غير أن «الوجه الآخر» كان أكثر ثراءً. وسوف أكتفي بأن أنقل ما كتبه عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب، حرفياً.
«عرفت الكثيرين من رجال السياسة البارزين ولكنني لا أذكر أن علاقة وطنية وحميمة قامت بيني وبين أهل السياسة كالعلاقة التي قامت بيني وبين مكرم عبيد.
وقد كان مكرم عبيد فناناً حتى أطراف أصابعه. في كافة مجالات التذوق الفني وفي تعامله مع الأشياء وفي طريقة حياته. ولكن الموسيقى والغناء كانا غرامه. فهو مستمع نادر للموسيقى الشرقية والغربية، وخبير بهما، وكان له صوت رخيم ميّزه الملايين الذين سمعوه يخطب في الجماهير. ومع ذلك فصوته الحقيقي كنت تسمعه حين (يدندن) بلحن شرقي قديم، وحين كان يرتل القرآن ترتيلاً.
ولم يكن ترتيله القرآن أمراً عابراً، ولكنه في معظم الوقت كنت تكتشف أن ما يتغنى به هامساً هو آيات من القرآن. وبعد أن ينتهي من ترتيل آية، ويكتشف أنك سمعته يبدأ في شرح بلاغتها. ويوضح أنها معجزة سماوية. ويستطرد في الغوص في المعنى، وفي عبقرية ما فيها من صياغة وبلاغة. وكانت له أُذن حساسة في المقارنة بين كبار المقرئين. وأذكر جيداً أنه كان يتمتم كثيراً بآية معينة. يعيد فيها ويزيد. ويقول لي: تأمَّلْ هذا الكلام المعجز. تأمل هذه الصورة السماوية. تلك كانت الآيات الكريمة التي تقول: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درّي يُوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم)، (من سورة النور).
وكان غريباً أن يجد مكرم عبيد في حياته المزدوجة – بالقضايا المعقدة كمحامٍ، وبالقضايا العامة كسياسي – مكاناً للهدوء والسكون والانطلاق النفسي والروحي في عالم الفن.
كان بيت مكرم عبيد -بالطبع- لا ينقطع عنه الرواد والوفود. ولكن في صالة الدور الأول، تحت السلم الخشبي الصاعد إلى الدور الثاني، كان لديه بيانو من نوع ممتاز. وكنت أذهب إليه بغير موعد في معظم الأحيان.
عن الشرق الأوسط