الجهل أصل كل الشرور.. يقول أفلاطون، وفي سبيل رفعه عن الناس بذل الفيلسوف اليوناني الكبير ومن قبله معلمه سقراط كل ما في وسعهما، لكن طريقة سقراط الفريدة في معالجة الجهل كانت الأكثر شهرة على مدار التاريخ المعرفي، حيث كان يحادث أحدهم عن المعاني التي تتحكم في حياته ويتصور أنه يعلمها كل العلم ليكشف له سقراط جهله بها كل الجهل.
عد سقراط الجهل وثيق الصلة بالرذيلة، فهي نابعة عنه، وهو الرأي الذي قال به تلميذه أفلاطون، ليخالفهما أرسطو، فالرذيلة لديه لا تنطلق دوما من قاعدة الجهل، فقد يعلم المرء بأن الأمر رذيلة أو شر مع ذلك يقوم به، ويقع التصور الحديث للجهل موقعا أقرب للرؤية الأرسطية، وتأسيسا على ذلك ظهر علم يختص بدراسة الجهل agnotology على يد مؤرخ العلوم روبرت بروكتر عام 1992، حيث قدم الجهل لا كرذيلة بل كقوة أو “منتج” يجري صناعته وتوجيهه لأهداف معينة، غالبا ما تكون سياسية أو تجارية.
روبرت بروكتر
هذه القوة المصنعة تحقق أهدافها عبر استراتيجيات ثلاث: صناعة الحيرة، بث الخوف، إثارة الشكوك. كان بروكتر قد لاحظ أن شركات التبغ تطبقها حماية وترويجا لمنتجاتها، حيث ضخت الكثير من الأموال إلى وسائل الإعلام المختلفة لتثير الشكوك حول دقة وصدق البحوث العلمية التي تتحدث عن أضرار التدخين وكونه مسببا للسرطان، من ناحية أخرى مولت تلك الشركات أبحاثا أخرى نفت عن التبغ العديد من المضار المرتبطة به.
رصد بروكتر أن التشكيك في الأبحاث العلمية الحقيقية والدفع بالأخرى المزيفة أثار الحيرة لدى الكثير من الناس، وهو ما سهل اجتذاب العديدين لاستهلاك منتجات هذه الشركات، كخيار يعفيهم من الحيرة، ويحقق لهم المتعة.
هذه الحالة من غياب الوعي يستهدفها ليس فقط الشركات التجارية بل جماعات الضغط والأنظمة السياسية، ففي حالات كثيرة ترى هذه الجهات أن الجهل مفيد لمخططاتهم، ما يدفعهم لتغذيته وتعميقه لدى الناس، من خلال أساليب التخويف والتهويل والتشكيك واصطناع الأعداء والمبالغة في الخطر الصادر عنهم. الجهل هنا ليس فجوة يردمها العلم، بل قوة يمكن أن نصفها بشيء من التجاوز أنها موازية للعلم، ومجابهتها لا تكون إلا عبر علم الجهل، من خلال تحليل الميكانيزمات المعرفية المستخدمة في ترويج الأفكار الخاطئة وبث الحيرة والبلبلة بين الناس.
كارل بوبر
غياب هذا العلم وغفلة المجتمعات عن هذا الشكل المنظم والمتعمد من التجهيل، يوقعها في أسوأ كوابيسها، ويسلبها أي فرصة للنمو والتطور لأنها تعيش في أوهام للمعرفة هيأها حكامها أو نخبها.
وفي هذا السياق يتحدث كارل بوبر بإحدى محاضراته تحت عنوان “في مصادر المعرفة والجهل” عن كون هذا النوع من التجهيل لا يرتبط بافتقاد المعرفة “إنما هو عمل تقوم عليه قوة تتوخى إيقاع الأذى، وتشكل مصدر تأثير سيء وخبيث، يضلل عقولنا ويسممها، ويغرس فينا عادة مقاومة المعرفة”.
هذا يعني من وجهة نظر بوبر أن الجهل الحقيقي ليس في غياب المعرفة بل في رفض اكتسابها، ويتضح أشد ما يكون الوضوح في “التجهيل الطوعي”، الذي يمكن أن نرصده في حالات مثل اعتماد الفرد تفسيرات جماعته السياسية أو طائفته الدينية أو نظامه الحاكم، خوفا من تداعيات رفضه وعواقب عدم اعترافه بها أو حفاظا على مكتسبات يحققها من الجماعة أو الطائفة أو النظام السياسي.
يقول المثل الدنماركي: من يجهل أن سريره قاس ينم جيدا، فالمعرفة أحيانا تكون مؤرقة ومزعجة، في حين أن الجهل مريح لأهله في أحايين كثيرة، مع ذلك فإن التطور والتقدم والنماء وكل ما يتصل بهذه المعاني لا يتحقق إلا عبر المعرفة، ويبدو أن المعرفة في مجتمعات موغلة في الجهل لن تمر إلا عبر علم الجهل.