“تيار فكري جديد يغشى العقل المسلم في منطقة الشرق الأوسط، ويتمحور حول إقصاء الآخر الديني عن الدول ذات الأغلبية المسلمة، وهو ما يهدد مستقبل الأقليات بالمنطقة”.
في هذا السياق، يتتبع كتاب The Future of Religious Minorities in the Middle East (مستقبل الأقليات الدينية في الشرق الأوسط) عبر منهج تحليلي إحصائي الأصول التاريخية لسياسات التطهير الديني في المنطقة، ويرصد تأثيراتها، وردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية تجاهها.
صدر الكتاب حديثا عن دار Lexington Books الأمريكية للنشر، ويقع في 276 صفحة من قطع الوسط، وقام بتحريره “جون إبنر”، الباحث الأكاديمي والناشط الحقوقي والمدير التنفيذي لمنظمة التضامن المسيحي الدولية.
المسيحيون في إسبانيا الإسلامية
يبدأ الكتاب بإطلالة تاريخية على أوضاع غير المسلمين في البلدان ذات الأغلبية المسلمة قبل القرن التاسع عشر، مؤكدا أن المسيحيين تحت الحكم الإسلامي (باعتبارهم أهل ذمة) قبل عام 1800 تمتعوا بأوضاع أفضل بكثير من تلك التي عاشها المسلمون تحت الحكم المسيحي، حتى يصل إلى نتيجة مفادها: “في القرن الثالث عشر كان الأفضل للمرء أن يكون مسيحيا في إسبانيا المسلمة من أن يكون مسلما في إسبانيا المسيحية”.
ورغم أن الذمية قدمت للمسيحيين مساحة من التسامح والتعايش وحرية الاختلاف في البلدان الإسلامية إلا أن ذلك لا يعني – من وجهة نظر الكتاب – المبالغة في مثاليتها؛ لأنها في النهاية تقوم على فرضية عدم المساواة في المواطنة بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات، وهو ما ترفضه مفاهيم المواطنة الحديثة.
ما بعد الإمبريالية
ومع تمدد الموجة الإمبريالية المسيحية في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، انقلبت الأوضاع رأسا على عقب، حيث منحت الدول المستعمرة الأفضلية للمواطنين المسيحيين واليهود، الذين أبدوا قبولا أكبر بالحكام الجدد، وتعلموا لغاتهم ومهاراتهم، وقاموا بدور الوسيط بينهم وبين الشعوب المستعمرة ذات الأغلبية المسلمة.
ومع انحسار الموجة الإمبريالية في النصف الثاني من القرن العشرين، نظرت الأنظمة الإسلامية الحاكمة إلى الأقليات الدينية، التي عكفت على التماهي مع الاستعمار والقبول به وخدمة أهدافه، نظرة توجس.
رغم ذلك، يؤكد الكتاب أن بداية الاضطهاد الديني الحقيقي للمسيحيين واليهود تزامنت مع انفراط عقد الدولة العثمانية، وقيام الجمهوريات العلمانية. حدث ذلك في تركيا الكمالية التي مارست صنوف الاضطهاد ضد الأرمن في العقد الأول من القرن العشرين.
شعب السبت وشعب الأحد
بدأ خروج الأقليات الدينية من بلدان الشرق الأوسط ذات الأغلبية المسلمة باليهود قبيل منتصف القرن الماضي. والآن يعيد المسيحيون الشرق أوسطيون مشهد الخروج اليهودي من جديد. ففي الفترة من عام 1500 إلى عام 1900 شكل المسيحيون 15% من سكان الشرق الأوسط. وفي عام 1910، تراجعت هذه النسبة إلى 13.6%، حتى بلغت في عام 2010 4.2% فقط، ويستمر هذا التراجع بصورة مطردة في العقد الأخير، حسب الكتاب.
ومع اندلاع المد الثوري في المنطقة في بداية العقد الحالي، اتسمت أوضاع المسيحين في الشرق الأوسط بحالة من التعقيد لم يعهدها تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين على امتداده. ويرصد الكتاب هذه التعقيدات عبر سلسلة من أعمال العنف غير المسبوقة ضد المسيحيين تزامنت جميعها عشية الاحتفال بأعياد ميلاد عام 2011 في عدد من الدول على امتداد الخريطة الشرق أوسطية، مثل نيجيريا وأوغندا وإيران وماليزيا وطاجيكستان وغيرها.
ويخلص الكاتب إلى أن هذه الأعمال جميعا تبعث برسالة واحدة إلى المسيحيين مفادها أنهم غير مرغوب فيهم في المنطقة. وقد استجاب المسيحيون لهذه الرسالة سريعا بالخروج بما يشبه موجة هجرة مسيحية جديدة من الشرق الأوسط تنذر بأفول المسيحية من مهدها. ففي تركيا، تراجعت أعداد المسيحيين من 2 مليون عام 1920 إلى بضعة آلاف في الوقت الراهن. وفي العراق، كشفت “منظمة التضامن المسيحي الدولية” عام 2007 أن ما يقرب من نصف المسيحيين الذين كانوا يعيشون بالبلاد حتى عام 2003 قد لاذوا بالفرار. وفي سوريا انخفضت نسبة المسيحيين من ثلث أعداد السكان في بداية القرن العشرين إلى أقل من 10% بعد اندلاع الصراع المسلح بالبلاد. وفي لبنان تقلصت نسبة المسيحيين من 55% مع بداية انحسار المد الاستعماري الفرنسي إلى30% في الوقت الراهن.
ولا يختلف الحال كثيرا في فلسطين، حيث شكًل المسيحيون 10% من إجمالي تعداد السكان إبان الحكم العثماني، لتتراجع هذه النسبة إلى 2% فقط في الوقت الراهن. وتحولت مدينتي بيت لحم والناصرة من مدينتين ذواتي أغلبية مسيحية على مدى ما يقرب من ألفيتين كاملتين إلى مدينتين ذواتي أغلبية مسلمة. وبينما كانت أعداد المسيحيين في القدس تفوق أعداد المسلمين في عام 1922، يشكل المسيحيون اليوم 2% فقط من إجمالي سكان المدينة، كما يرصد الكاتب الذي يصف إسرائيل بأنها “واحة الأمان في الشرق الأوسط للمسيحيين العرب”.
نظرة تاريخية
يرصد الكتاب استراتيجيات عدة للتعاطي المسيحي مع الأزمة تاريخيا، ويسهب في تفصيل ثلاثة منها، وهي:
- نهج التماهي:
تؤثر القيادات الدينية لطائفة الكاثوليك الملكيين في لبنان وسوريا تجنب الصدام عن طريق “الرضوخ الكامل للذمية”. في هذا الإطار، يلقي البطريرك غريغوريوس الثالث لحام بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الكاثوليك بلائمة تفشي الإسلام السياسي على الغرب، ويحمل إسرائيل وزر العمليات التي يشنها الجهاديون على المسيحيين الشرقيين، كما ينظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره المسئول الأوحد عما أسماه “الانقراض الديموغرافي للمسيحيين الشرقيين”.
- نهج المواجهة:
ساعدت الطبيعة الجغرافية في لبنان المارونيين على اللجوء إلى الجبال الوعرة، وحمل السلاح والعيش في استقلالية كاملة دفعتهم في عام 1926 إلى إغراء الاستعمار الفرنسي ببناء وطن قومي لهم في “لبنان الصغرى”، شكًلوا فيه – مع مسيحيين من طوائف أخرى – حوالي 80% من إجمالي عدد السكان. ثم قادتهم أطماعهم بعد ذلك إلى التمدد في “لبنان الكبرى” التي شكًل المسيحيون 55% من إجمالي عدد سكانها. إلا أن المارونيين دفعوا ثمن أطماعهم بعد خمسين عاما، عندما أودت رحى الحرب الأهلية بالأغلبية المارونية، وأدت إلى انقلابهم داخليا على أنفسهم. وبينما تمسك بعضهم بخيار المواجهة، سارع الفصيل الأكثر أهمية إلى الانتقال إلى خندق التماهي؛ حيث تحالف الجنرال السابق ميشيل عون مع حزب الله، و”مارس الجهاد في صفوفه”.
- نهج التوازن:
يرى الكاتب أن عوامل الجغرافيا (الطبيعة السهلية لمصر)، والتاريخ (الحكومة المركزية القوية)، والمجتمع (تخللهم في النسيج المجتمعي) دفع الأقباط المصريين إلى تبني خيار التماهي مبكرا، وساعدتهم هذه الاستراتيجية على تحقيق التعايش ومقاومة الأسلمة بصورة أكثر نجاحا من غيرهم. ويسوق الكتاب العديد من الإحصاءات الرقمية التي تؤكد هذه الحقيقة.
ثم جاءت الحقبة الإمبريالية لتقدم إلى أقباط مصر دورا أكبر، وهو ما استمسكوا به بقوة، إلا أن هذا الدور شهد انحسارا مع انحسار المد الإمبريالي وجلاء الاستعمار الإنجليزي عن مصر في خمسينيات القرن الماضي.
إلا أن نهاية الألفية الثانية شهدت تحولا في تعاطي قطاع من المسيحيين المصريين مع ظاهرة المد الإسلامي، يتبنى خيارات أقرب إلى نمط المواجهة الماروني، بمساعدة مسيحيي المهجر، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية.
سيناريوهات المستقبل
أغرى نموذج التماهي الذي غلب على علاقة الأقليات المسيحية بالأغلبية المسلمة، بنظر الكاتب – بتطور ذهنية التطهير الديني لدى تيارات الإسلام المتشدد التي تبنت خطابا زاعقا يعزز المخاوف من تحول منطقة الشرق الأوسط “من منطقة فسيفساء ديني تذخر بالتعددية إلى منطقة مسطحة لا تتسع إلا للمسلمين وبقايا أقليات محاصرة”، ما يطرح خيارين لا ثالث لهما للتعاطي مع هذه التطورات، هما: إما العمل على مساعدة الأقليات غير المسلمة على العيش والتعايش في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، أو مساعدتهم على الخروج منها، حسب ما يرى الكتاب.