منوعات

أحمد بهاء الدين.. غاندي الصحافة المصرية

سئل الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين: من أنت؟ أين تضع نفسك؟ هل أنت ناصري؟ أم يساري؟ أم ليبرالي؟، فأجاب: أنا اشتراكي ديمقراطي ليبرالي، لم أكن في يوم ماركسيا، وطوال حياتي لم أنضم إلى أي تنظيم، ربما هذا عيب، لأن بلادنا تحتاج لأن ينتظم الإنسان في أي شيء، لكنني أعترف أنني تعودت أن أكون فرديا في تفكيري وتكوين قناعاتي.

عاش أحمد بهاء الدين الذي رحل عن عالمنا في 24 أغسطس من عام 1996 عن عمر يناهز 69 عاما، مستقلا، دافع دائما عما يعتقد أنه صحيح، ناضل وهو في مقتبل عمره ضد استبداد الاحتلال الإنجليزي والقصر وحكومات الأقلية، شارك في مظاهرات الطلبة عام 1946 المطالبة بالاستقلال ورحيل الملك وتأسيس الجمهورية، وأصيب إصابات بالغة إثر إغلاق قوات البوليس لكوبري عباس والاعتداء على الطلبة.

أيام لها تاريخ  

انتصر “غاندي الصحافة المصرية”، كما أطلق عليه صديقه الكاتب نعمان عاشور، لثورة 23 يوليو، دعم الجمهورية التي ناضل من أجلها، إلا أنه لم يتماهى مع قادة النظام الجديد، حرص على أن يكون بينه وبينهم مسافة، رفض المشاركة في حملات المطالبة بالسلطة الفردية المطلقة وتبني أسطورة عبادة الفرد، سبح عكس التيار وكتب سلسلة مقالات بعد الثورة تدافع عن حزب الوفد كوعاء للحركة الشعبية منذ عام 1919.

رفض تبرع بعض الساسة والصحفيين بـ”إعدام الماضي” نفاقا للعهد الجديد، فأصدر كتاب “أيام لها تاريخ” ليذكر الناس صراحة بأن “مصر لم تولد في يوليو 1952، لكن لها تاريخ عريق في طلب شيئين أساسيين العدل والحرية”. وقسم فصول كتابه للحديث عن قادة التحرر مثل عبد الله النديم وسعد زغلول وعلى عبد الرازق.

يقول الأستاذ بهاء: جيلي كان مؤمنًا بقضايا حرية مصر وحق شعبها في العدالة الاجتماعية وكان خصما للاستعمار ولسلطة القصر غير الدستورية، نادى هذا الجيل بالكثير مما جاءت به ثورة يوليو بعد ذلك.

ويضيف: “كنا نرفض الأحلاف العسكرية وندعو إلى سياسة عدم الانحياز وتحديد الملكية الزراعية وتأميم البنوك الكبرى وتجارة القطن”، بحسب ما نقله عنه زميلنا الأستاذ رشاد كامل في كتاب “مقالات لها تاريخ”.

يسترسل بهاء في حديثه عن جيله فيقول: “تلك الشريحة من هذا الجيل – يقصد الذين لم ينخرطوا في قوالب تنظيمية قبل يوليو- أيدت الثورة من البداية كمبدأ كسر القديم، ثم أيدتها تأييدا أعمق حين تغلبت على شكوكها فعلا بعد زمن ربما منذ 55-1956 بوجه عام، أيدتها عن اقتناع لا عن مجاراة”.

ويكمل: حافظت في كل الظروف على إبداء رأيي بأمانة واستقلال، وكنت أرى إنه إذا تعذرت الكتابة بسبب الرقابة امتنعت وكتبت في قضايا أخرى كالتاريخ أو السياسة الدولية، لكنني في كل ظروف الثورة أعتز بأنني لم أكتب غير ما أعتقد، مخطئا كنت أم مصيبا”.

وعن كيفية حفاظ الكاتب على استقلاله في ظل الرقابة على الصحف قال بهاء: في بلادنا يستطيع الكاتب أن يكتب في أي موضوع آخر، مثلا كتاب “أيام لها تاريخ” كتبته في مرحلة كانت الرقابة فيها بالغة الشدة، كان ذلك في عام 1954 أثناء أزمة مارس، وكنت أريد أن أقول إنه لابد للبلد من دستور ومن حد أدنى من الديمقراطية رغم موافقتنا على الاتجاهات الاجتماعية الأساسية للثورة، فلجأت للتاريخ، وكانت فصوله تتحدث عن حرية الرأي وضرورة الدستور من خلال قصص ومواقف من تاريخ مصر الحديث.

ويضيف: بالنسبة لي فأنا إذا عجزت عن كتابة رأيي الصحيح كاملا عن قضية ما، فلا أكتب عنها إطلاقا، ولقد ظللت شهورا أكتب عن الأدب والفن وشهور أخرى أكتب في التاريخ حتى لا أكتب ما أرغب.

نقيب ينتصر للحرية

لم يمنعه تأييده للثورة وزعيمها من الدخول في مواجهة غير محسوبة مع جمال عبد الناصر نفسه، ففي عام 1968 وتحديدا في الثامن وعشرين من فبراير، عندما  كان بهاء نقيبا للصحفيين، عقد مجلس النقابة اجتماعًا طارئًا لمناقشة مظاهرات طلاب مصر التي خرجت للاحتجاج على نتائج محاكمة قادة سلاح الطيران، محملة عبد الناصر مسئولية نكسة يونيو1967.

جرت مناقشات واسعة حول الأحداث ودور الصحافة في هذه المرحلة، ووفقا لما نقله صديقنا الصحفي محمد توفيق في كتابه «الملك والكتابة.. قصة الصحافة والسلطة في مصر» فقد اتفق مجلس النقابة على إصدار بيان ورفعه إلى المسئولين، يساند مظاهرات طلبة الجامعات والعمال باعتبارها “تعبيرًا عن إرادة شعبية عامة تطالب بالتغيير على ضوء الحقائق التي كشفت عنها النكسة وبناء عليه يجب الإسراع في حساب كل المسئولين، وتعميم الحساب ليشمل كل القطاعات والمؤسسات في البلاد ويجب توسيع قاعدة الديمقراطية، والإسراع في إصدار القوانين المنظِّمة للحريات العامة وإجراء انتخابات اللجان النقابية ومجالس النقابات التي تجمدت وحرمت من حقها من انتخاب قياداتها، وتحقيق العدالة في توزيع الأعباء المترتبة على الاستعداد لإزالة العدوان، بحيث تتحمل كل الفئات نصيبها بما يتناسب مع قدراتها ويتحمل الأغنياء النصيب الأكبر وليس العكس”.

وقع أعضاء المجلس ومنهم كامل زهيري ومحمود المراغي وعلي حمدي الجمال على البيان، وقبل إصداره تلقى نقيب الصحفيين مكالمة من وزير الإرشاد القومي محمد فايق، يطلب منه عدم إذاعة أي بيان من النقابة، فرد النقيب: آسف يا سيادة الوزير، القرار ليس قراري وحدي لكنه قرار مجلس النقابة.

انهالت الاتصالات على مكتب نقيب الصحفيين ومن بينها اتصال من علي صبري قال له فيه: “بصفتي أمين الاتحاد الاشتراكي أرجو عدم إصدار البيان”، فجاء رد النقيب حاسما: الاتحاد الاشتراكي قد يكون مالكا للمؤسسات الصحفية لكنه لا يملك نقابة الصحفيين.

جمال عبد الناصر

كتب بهاء البيان بنفسه على الآلة الكاتبة وفي صباح اليوم التالي كانت هناك نسخة من البيان على مكتب الرئيس، واعتبر عبد الناصر البيان طعنة موجهة إليه من نقابة الصحفيين، واقترح البعض اعتقال أحمد بهاء الدين وعدد من أعضاء مجلس النقابة، لكن عبد الناصر رفض وقال: “لأ.. ده أحمد بهاء الدين وأنا عارفة مخه كدة”.

انفتاح السداح مداح

رغم العلاقة المتينة التي ربطته بالرئيس أنور السادات، ألا أن ذلك لم يمنع الأخير من التنكيل برئيس اتحاد الصحفيين العرب أحمد بهاء الدين بعد أن أبدى رفضه لقرارت الفصل التي أصدرتها لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي لعدد كبير من الكتاب والصحفيين على خلفية توقيعهم على بيان ينتقد التلكؤ في قرار الحرب.

ترجمة قرار الفصل من الاتحاد الاشتراكي، بحسب ما نقل أستاذنا محمد العزبي في كتابه “كناسة الصحف”، هو أبعاد المفصولين عن وظائفهم ومؤسساتهم، إنفاذا لقانون نقابة الصحفيين الذي اشترط أن يكون الصحفي عضوا في الاتحاد الاشتراكي، كان من بين هؤلاء فيليب جلاب ومحمد عودة وصلاح عيسى وحسين عبد الرازق ولطفي الخولي ويوسف أدريس ومكرم محمد أحمد وأمينة شفيق ومحمد العزبي وآخرين.

صدر القرار بنقل بهاء الدين وتوفيق الحكيم إلى الهيئة العامة للاستعلامات، ثم تراجع السادات عن قراره في 28 سبتمبر 1973، وأعلن عن عودة الصحفيين المفصولين إلى مؤسساتهم خلال كلمة بمناسبة ذكرى وفاة عبد الناصر قبل حرب أكتوبر بأيام.

أنور السادات

بعد حرب 1973 بشهور، مرر رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي مشروع قانون يقضى بفتح الاقتصاد المصري لرأس المال العربي والأجنبي في شكل استثمار مباشر، فكتب بهاء الدين مقاله الأشهر بـ”الأهرام” في 12 يوليو 1974 بعنوان “الانفتاح ليس سداح مداح” يهاجم فيه النظام وتوجهاته الاقتصادية الجديدة. وقال إن التحولات التي تقررها الدولة على أي صعيد، يجب أن تكون مدروسة ولها خطة معروفة ومُعلنة، وتراعى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لقرارها.

أثار المقال ضجة كبيرة في الشارع وأدى إلى شعور عام بالقلق والغضب، فتوجه عبد العزيز حجازي إلى السادات يشكو إليه من الحالة التي تولدت في الشارع نتيجة هذا المقال، فقرر السادات منع بهاء الدين من الكتابة، ورفض مُناقشته فى وجهة نظره عن الأسلوب الذى جرى به تطبيق سياسة الانفتاح.

رفض بهاء وصف السادات لمظاهرات 18 و19 يناير 1977 بـ”انتفاضة الحرامية”، كما عارض اعتقالات 5 سبتمبر 1981، وعن علاقته بالسادات يقول بهاء الدين: خلال 8 سنوات صادقني السادات مرارًا، ونقلني من مكاني كعقاب مرة، وفصلني من العمل الصحفي مرة، وأوقفني عن الكتابة مرتين، وكان هذا الصعود والهبوط، المتوالي مصدر حيرة لكثير من السياسيين والزملاء الصحفيين والقراء.

سجن “صباح الخير”

بعد اتمامه دراسته في كلية الحقوق لم يتمكن بهاء الدين من العمل بالمحاماة، فتخرجه في سن صغير لم يمكنه من الالتحاق بنقابة المحاميين، فعمل لفترة في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف تعرف خلالها على الكاتبين الكبيريين عبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم، وأثناء تلك الفترة انتظم بهاء الدين في كتابة مقال بمجلة “الفصول” التي أصدرها ورأس تحريرها الكاتب الكبير محمد زكي عبد القادر.

وعن بداية مشوراه الصحفي كتب بهاء الدين في مقال له بـ”روز اليوسف”: ذات صباح من عام 1952 كتبت مقالا انتقد فيه قانونا يرفع نسبة مساهمة الأموال الأجنبية في المؤسسات المصرية تشجيعا لرأس المال الأجنبي، وأرسلته مع صديق إلى إحسان عبد القدوس، ودهشت عندما نشر المقال في مكان بارز ووضع له إعلان في الصفحة الأولى، وزادت دهشتي في الأسابيع التالية، أصبحت أمر على “روز اليوسف” وأسلم بواب الدار ورقة صغيرة فيها مقال ثم أنصرف لأجد المقال منشورا في أبرز مكان بالمجلة وداخل البرواز المعروف “حاول أن تفهم”.

ويضيف: “في إحدى المرات أعطيت البواب مقالا انتقد فيه افتتاحية رئيس التحرير السابقة، ودهشت عندما وجدته منشورا في نفس المكان.. ومرت الأسابيع وأنا أكتب هذه الكلمات الأسبوعية دون أن أعرف مخلوقا في “روز اليوسف”، وفي ذات صباح أعطيت البواب مقالا وقبل أن أنصرف وجدته يعود مسرعا ومعه الزميل عميد الإمام سكرتير التحرير الذي قال لي: رئيس التحرير أمر بالقبض عليك ودخلت معه لرئيس التحرير”.

كتب إحسان عبد القدوس بعد سنوات مقالا قال فيه أنه نجح في القبض على بهاء الدين بعد خمس سنوات من وصول مقالاته إلى الدار دون أن يعرفه، وأنه حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة في “روز اليوسف”، ويضيف: ثم أقمنا له سجنا خاصا أطلقنا عليه “صباح الخير”.

إحسان عبد القدوس

وعندما كلفته السيدة فاطمة اليوسف برئاسة تحرير مجلة صباح الخير في عام 1956، لم يكن عمره حينها قد تجاوز 29 عاما.

عمل الأستاذ بهاء خلال مشواره في بلاط صاحبة الجلالة بصحف “الشعب” و”الأخبار” و”آخر ساعة” و”الأهرام” و”دار الهلال” إلى جانب “روز اليوسف” ومجلة “الفصول” فضلا عن ترأسه لتحرير مجلة “العربي” الكويتية خلفا للدكتور أحمد زكي.

لم يحتمل جسد بهاء وقلبه الأزمات والصراعات التي مزقت الوطن العربي، وأصيب بأزمة بعد غزو العراق للكويت، ودخل في غيبوبة لفترة طويلة، ليتوفاه الله فى 24 أغسطس 1996.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock