في عهد جديد يواكب ألفية جديدة، ينتقل الصراع حول المعنى والهوية – ولو جزئيا – إلى الفضاء الإلكتروني، حيث يقبع عالم لا محدود من الممكنات المستحيلات.
في هذا السياق، يعرض الكاتب البريطاني، كاميرون لوكس لمصطلحات جديدة تغزو عالمنا؛ يسبر أغوارها، ويستكنه ما تنطوي عليه من مفاهيم، ويتتبع نشأتها وتطورها، ويرسم مساراتها حتى غدت قوة تشكل الواقع وتوجه المستقبل.
Digital Design Ethics (أخلاقيات التصميم الرقمي)
بالإشارة إلى ما يُطلق عليه “أزمة الانتباه” (لا أحد يستطيع أن يصرف عينيه عن هاتفه الذكي)، يشير جيمس وليام في كتابه Stand out of our Light: Freedom and Resistance in the Attention Economy – الذي نُشر في مايو 2018 – إلى أن “تحرير العقل البشري ربما يمثل الجهاد الأخلاقي والسياسي الأكبر في هذا العصر”.
ويؤكد وليام أن المنصات واسعة الاستخدام في الفضاء الإلكتروني، مثل جوجل وفيسبوك وتويتر، هي بالأساس “شركات دعاية تقوم بتطوير علم جديد للاستحواذ على الانتباه، يهدف إلى استغلال ما يعتور إرادتنا من ضعف، والتلاعب بنا من أجل تحويلنا إلى كائنات إستهلاكية تعتاش على شراء الأشياء”، ويضيف: “إن هواتفنا الذكية هي من يمنح هذه الشركات طريقا معبدة للولوج إلى عقولنا، والهيمنة عليها”.
يعمل وليام حاليا باحثا في مجال “أخلاقيات التصميم” في “معهد أكسفورد للإنترنت” (Oxford Internet Institute)، ويمثل جزءا من حركة مناهضة للتكنولوجيا الكبرى (Big Tech)، تطرح أسئلة بالغة التعقيد بشأن الممارسات التكنولوجية التي تعيد صياغة عقولنا حتى تكون صالحة لأغراض تجارية.
تكتسب دعوة وليام إلى ضرورة مد مظلة العقد الاجتماعي وأفكار حقوق الإنسان لتشمل الفضاء الإلكتروني زخما كبيرا في الوقت الراهن، وتثير شكوكا عميقة حول فرضية ارتباط بزوغ فجر الإنترنت بتأسيس يوتوبيا تكنولوجية ومعلوماتية، خاصة أن تيم بيرنيرز لي – مخترع الإنترنت الذي جعل العالم مجرد “ويب” – بات يؤمن بأن “الإنترنت تخذلنا”
The web can be weaponised – and we can’t count on big tech to stop it
Post-Human (ما بعد الإنسانية)
أحد أهم الكتابات التي توضح معنى هذا المصطلح هو مقالة دونا هاراواي، التي نُشرت في عام 1984، بعنوان A Cyborg Manifesto، وعبرت فيه عن “حلم طوباوي بعالم بشع خال من الجنس”.
في هذا الوقت بلغ تأثير هذه المقالة ذروته، برغم أن فكرتها بدت مجنونة نوعا ما؛ هل يمكن أن يوجد حقا عالم بلا جندر، عالم من الهويات الحرة المحايدة جنسيا يتجلى من خلال تبن كامل للتقنيات الحديثة، بالمعنى الواسع للكلمة؟
كان هذا محض خيال علمي آنذاك، لكن يبدو أن حركة التاريخ لم تخذل هاراواي، ففي الوقت الحالي، حيث تتوغل هوياتنا إلى أعماق الفضاء الإلكتروني السحيق بطرق متعددة، لم نعد فقط نعتمد على خلايانا الدماغية في تخزين معلوماتنا ومعارفنا، وإنما على غيوم تكنولوجية تعمل كامتدادات لعقولنا، بما يجعلنا نحيا في عالم التكنولوجيا بحميمية بالغة (في شكل أجهزة محمولة ترتبط بعقولنا، بل وبعمليات الأيض التي تتم داخل أجسامنا) حتى أن الأمر يبدو أحيانا وكأننا على بعد خطوات من أن نكون ” cyborgs” (رجالا آليين) بكل معنى الكلمة. رغم ذلك، تبقى قضية الحياد الجنسي مشكلة تستعصي على الحل.
Masculinity (النزعة الذكورية)
على مدى عقود خلت، ساد اعتقاد بأن مفهوم الذكورة معروف ومحدد، إلا أن حالة من السيولة المفاهيمية قد غشيت هذا المصطلح مؤخرا. ربما يمثل تغير السياقات الاجتماعية والثقافية بوتيرة متسارعة السبب الرئيس في ذلك. فعندما كنت تسأل رجلا عن معنى ’الذكورة‘، تأتيك الإجابة بأنها ’عكس الأنوثة‘ (التعريف بالسلب، على سبيل الازدراء)، و’عكس الشذوذ الجنسي‘ (التعريف بالسلب، على سبيل الازدراء أيضا).
أما في الوقت الراهن، فقد غدت الأنوثة أمرا رائعا (تعريف جديد فضفاض)، وكذلك الشذوذ الجنسي (تعريف جديد فضفاض أيضا)، كما صارت كلتا النزعتين تتغذيان على المساحة القديمة التي كانت تحتلها الذكورة فيما مضى، وفقا لما يلح عليه العديد من الكُتاب والمفكرين، من أمثال الكاتبة الأمريكية هانا روزين (كتاب: The End of Men and the Rise of Women)والفيلسوفة الإنجليزية كورديليا فاين (كتاب: Unmaking the Myths of our Gendered Minds) والكاتب الإنجليزي جرايسون بيري (كتاب: The Descent of Man).
لم يبق من الذكورة سوى شيء من الفراغ المعتم، يُطلق عليه ’أزمة الذكورة‘، وهو ما يخلق تحديا جسيما أمام الرجال يقتضي منهم صياغة تعريف جديد للذكورة بالإيجاب (يرتكز على ما هم عليه فعليا “هوية آنية”، وما يريدون أن يكونوا عليه في المستقبل “هوية مستقبلية)، ويتجاوز التعريف بالسلب (ما هم ليسوا عليه ” تحديد الهوية بالنقيض”).
على مدى أجيال ناضلت الناشطات النسويات للفت الانتباه إلى الآثار الجانبية السامة للنزعة الذكورية. وفي نهاية المطاف، تبدو القاعدة العريضة من الرجال على حافة التسليم بمبدأ أن ثمة مشكلة حقيقية. والآن يبقى على الجميع أن يأخذوا خطوة أخرى إلى الأمام، وأن يقروا بأن التمييز الجندري لا يمكن أن يثمر مجتمعا إنسانيا صحيا بوجه عام.
Generation Why? (الجيل لماذا؟)
حفل القرن العشرين بالعديد من الأحداث التاريخية الصاخبة التي تركت آثارا عميقة على أجياله المتعاقبة. فقد خلًفت أهوال الحرب العالمية الأولى جيلا عرف باسم “الجيل الضائع” (Lost Generation)، الذي كفر بكل الثوابت، وخرج يهيم على وجهه بين الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من البلدان الأوربية.
تبع هذ الجيل جيلا آخر أطلق عليه (Baby Boomers)، نسبة إلى معدلات المواليد المرتفعة التي أعقبت معدلات الوفيات المرتفعة في سنوات الحرب العالمية الثانية.
أما الجيل الذي ولد في الفترة من الستينيات إلى الثمانينيات فقد أطلق عليه (Generation X)، نسبة إلى رواية Generation X: Tales for an Accelerated Culture، للروائي الكندي دوجلاس كوبلاند، وعٌرف هذا الجيل بالعزوف التام عن المشاركة السياسية، بما في ذلك التصويت في الاستحقاقات الانتخابابية المهمة.
وفي العقدين الأخيرين من القرن الماضي اجتاحت الثورة التكنولوجية العالم، خاصة العالم الغربي، وقد أُطلق على الجيل الذي واكبت طفولته المبكرة هذا الحدث اسم (Generation Y)، وعُرف عنه استخدامه الحكيم للتكنولوجيا، وقدرته على النأي بنفسه عن التحول إلى مادة استهلاكية في فضاءاتها.
أما جيل ما بعد الألفية (Generation Z) فقد واكب حقبة زوال الحدود بين الخاص والعام بعدما اقتحمت أجهزة الكمبيوتر ووسائل الإعلام المتطورة حرم الخصوصيات، وحولت العالم إلى قرية صغيرة وكتلة متداخلة.
في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة نشرت الروائية البريطانية زادي سميث مقالة حملت عنوان Generation Why?، تنطبق بصورة عميقة على الأفراد الذين ولجوا الحياة في سني عمرهم الأولى من أبواب الرقمنة.
تتمثل الفكرة الرئيسة للمقالة في أن جميع مواقع التواصل الاجتماعي تمثل – في نهاية المطاف – مواقع اختزالية تقوم على استغلال مستخدميها وتحويلهم إلى مادة استهلاكية؛ فهي “تعيد برمجتنا لنكون أكثر مناسبة لغاياتها الخاصة، التي تتمثل بالأساس في الدعاية والتجارة”. وتصور سميث هذه الحالة على أنها “خمسمائة مليون شخص محاصرين في أفكار طلاب جامعة هارفارد الحديثة الطائشة”.
كتبت سميث هذه المقالة قبل بضعة أعوام. واليوم، يتجاوز عدد مستخدمي موقع “فيسبوك” – على سبيل المثال – 2 مليار مستخدم. لقد عاش جيلا Y وZ حياة مشبعة بالتكنولوجيا، وتعاملوا بحكمة وفطنة مع الإنترنت، ومنصات التواصل الاجتماعي وبرامجه وتطبيقاته، التي زعمت أنها تعطي الحياة معنى متكاملا، وتقدم إجابات وافية على جميع الأسئلة التي يمكن أن تشغل الإنسان.
في هذا السياق، يطرح لوكس تساؤلا محملا بالإجابة: هل يقنع أفراد “جيل لماذا” بعلاقتهم “السلبية” بوسائل التواصل الاجتماعي، وبأن يكونوا محاصرين داخل أحلام زوكربيرج، وأشباهه؟
إرهاصات تململات واضحة، وسخط وتطرف بدأت تلوح في الأفق لتنذر (أو لتبشر) بأن وقتا طويلا لن يمضي قبل أن يصدع هؤلاء بثورتهم، ويقدموا إجابة صاخبة على سؤال “لماذا” الذي عنون لهم.
Ghosting (تحول الإنسان إلى شبح)
في فيلم A Ghost Story، الذي عٌرض لأول مرة في عام 2017، يروي الكاتب والمخرج الأمريكي، ديفيد لوري، قصة رجل يعيش مع أسرته حياة سعيدة، لكنه يتعرض فجأة لحادث سيارة يفضي به إلى الموت، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح مجرد شبح يهيم في دنيا البشر.
يقرر “الشبح” العودة إلى منزله، والاختباء تحت ملاءة؛ حتى يتمكن – برغم عجزه الكامل عن المشاركة – من متابعة حياة أسرته بدونه. تنتقل الأسرة بعد فترة إلى منزل آخر، ويحل آخرون محلها، وتستمر الحياة بصورة طبيعية.
يعبر بطل الفيلم، الذي يتحرك متسترا بملاءته، عن فكرة الوحدة؛ فهو حبيس عالم خارق للطبيعة، وتهيمن عليه فكرة ’العلاقات السابقة‘. يتمكن “الشبح” في بعض الأحيان من التعبير عن سخطه عندما يتحول إلى ’روح شريرة‘ تعمد إلى تحطيم بعض الأطباق، وإلقاء الكتب من النافذة.
تريلر فيلم A Ghost Story (2017)
الحقيقة الصارخة التي يجليها الفيلم هي أن هذا الرجل لم يتحول إلى شبح، وإنما تم مسخه؛ فلم يعد أحد يجيب على رسائله النصية، أو تراسله المباشر على إنستجرام DMs))، وهو محاصر في طي النسيان الرقمي، ومحكوم عليه إلى الأبد بأن يهيم كرمز تعبيري رقمي “emoji” لا ينتمي إلى عالم الإنسان. رغم ذلك، فعودته إلى عامل الأحياء لا تتطلب منه سوى أن يخلع عن نفسه ملاءته، وأن يجد شيئا أفضل يقوم به.