سوف يعيش الفكر السياسي سنوات منشغلاً بحل معضلة ما إن كان دونالد ترامب نتيجة منطقية لتطورات وأحداث مترابطة أم أنه ظاهرة عابرة تتوقف بنهايتها تداعياتها.
يميل صاحب هذه السطور إلى صف الاعتقاد بأن ترامب بكل ما يمثله من مواقف وسياسات وما يمارسه من تصرفات إنما هو حلقة في سلسلة من أحداث، كل حدث منها فرع مترابط بفروع أخرى في شجرة أحداث نبتت وترعرعت في مرحلة بعينها من مراحل تطور النظام الدولي الراهن.
أما إذا شاء المؤرخون منح ترامب ميزة إضافية تميزه عن غيره من أحداث وتطورات سبقته أو عاصرته أو سوف تلحق به فلن يجدوا صفة تنطبق عليه أحسن من أنه خير من أدى دور «المسرّع».
مرة أخرى أؤكد اقتناعي بأنه لم يبتكر ولم يبدع جديداً في السياسة أو الاقتصاد ولم يضف إلى أميركا صفة أو شيئاً لم يكن موجوداً فيها. الرجل جاء لهدف محدد. جاء ليسرع عمليات تاريخية جارية بالفعل منذ زمن ولكن بمعدلات بطيئة أو بأيدٍ مرتعشة أو كسولة، أو ربما بسبب مقاومة عنيدة في موقع ما.
قبل أسابيع فاجأ الرئيس ترامب بعض حلفائه الأوروبيين بقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس. أقول فاجأ بعض الأوروبيين ولا أقول فاجأ مختلف الأطراف المحيطة الآن أو التي أحاطت طويلاً بظروف وتطورات القضية الفلسطينية، وبخاصة الأطراف التي كانت مطلعة أكثر من غيرها على التفاصيل الحقيقية للمفاوضات العلنية والسرية الدائرة بشأنها.
لم يفاجئني ولم يفاجئ مراقبين كثراً تابعوا على مدى العقود الماضية التدهور المتلاحق في المواقف العربية والتعنت المتصاعد في المواقف الأميركية والإهمال أو عدم الاكتراث المتزايد في دهاليز المؤسسات الدولية. لم يكن غائباً عن وعي ساكني قصور الحكم في شتى الدول، أن القضية الفلسطينية دخلت حتى انحشرت منذ أوسلو تحديداً في حيز التصفية.
لم يكن الرؤساء، ومنهم كلينتون وأوباما مستعدين لتبني إجراءات تستعجل التصفية بسبب حسابات ضيقة أثارتها بين الحين والآخر بعض أفرع البيروقراطية الأميركية، وبخاصة قيادات الديبلوماسية وأحياناً قيادات عسكرية.
بالأمس القريب تعرض الرئيس الأميركي مجدداً لحملة إعلامية وسياسية ضارية كان يمكن في ظروف أخرى أن تحدف الرئيس بعيداً من اهتمامات عديدة. كانت متابعة مثيرة تلك التي مارسناها، نلاحظ ونراقب تصرفات الرئيس المحاصر إعلامياً والمنحشر سياسياً وقضائياً، فإذا بهذا الرئيس يفاجئ الأوروبيين مجدداً وحلفاء آخرين ومسؤولين دوليين ويقرر وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين.
واقع الأمر هو أن الرئيس ترامب رفع عن موائد التفاوض الممتدة في السر وفي العلن وضمن كثير من الصفقات خلال عقود عدة، رفع في أقل من عامين أهم بندين حالا دون تصفية القضية الفلسطينية على امتداد العقود الماضية، وهما القدس واللاجئون الفلسطينيون.
عشنا عقوداً نراقب بكل الفضول الممكن والاستمتاع تجربة الصين في النهضة منذ إعلان التحرير، وبخاصة مرحلة الصعود الأسطوري نحو القمة. قدرنا وقتها أن العولمة ما كانت لتقع وتتطور في الشكل الذي عاصرناه لو لم تكن الصين فاعلة أساسية فيها. تابعنا أيضاً ومعنا الغربيون الدور الكبير الذي أداه الاقتصاد الصيني في دعم النظام الرأسمالي العالمي، إلا أن الأمر الذي استحق الجانب الأكبر من اهتمامنا كان المرحلة التي استعدت فيه الصين للصعود نحو القمة.
كان مثيراً أن نرى الرئيس باراك أوباما يقرر خفض ميزانية الدفاع في وقت يشهد العالم كله صعوداً متسارعاً نحو القمة من جانب الصين. لم يكن كافياً أو شافياً لفضول المهتمين بالكتابة في الشؤون الاستراتيجية أن يعلن أوباما جعل شرق آسيا بؤرة التركيز في السياسة الخارجية الأميركية من دون أن يترجم هذا القرار أفعالاً على الأرض.
كنا شهوداً في هذا العقد الأخير على المحيط الهادي وهو يتحول من بحيرة أميركية خالصة إلى بحيرة آسيوية أميركية للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. كنا شهوداً على نظام هيمنة جديد ينشأ في النظام الإقليمي لجنوب شرقي آسيا، حيث اختارت الصين بحر الصين الجنوبي لتشيد جزراً اصطناعية تقيم عليها قواعد صاروخية وبحرية تتحكم بواسطتها في أمن ودفاعات الدول المطلة عليه والممرات البحرية القريبة منه. سمعنا عن سرعة معدلات تنفيذ مشروعي طريق الحرير والحزام، وكيف أن نحو 65 دولة دخلت مع الصين في علاقات غير متعادلة للاستثمار في بنى تحتية ومحطات تجارية وقواعد عسكرية.
هذه التحولات وغيرها كانت كافية لتدفع كثيرين في الغرب للبحث في أسباب تأخر الولايات المتحدة عن اتخاذ إجراءات قوية وحاسمة لمواجهة الصعود المتسارع للقطب الجديد نحو القمة.
القاعدة التاريخية تشير إلى أن لا تصعد دولة إلى القمة إلا نتيجة حرب أو سلسلة صدامات مسلحة أو أزمات تنتهي بنصر يسبغ الشرعية على الدولة الصاعدة وعلى حقها في القيادة أو المشاركة فيها.
هكذا كان العرف في صراع الإمبراطوريات العظمى. المعروف أن الصين بدأت صعودها المبيّت مع بدء انحدار الولايات المتحدة في أعقاب حرب العراق. صعدت في العلن، وبعلم المؤسسة العسكرية الأميركية التي ألمح جنرالاتها مرات عديدة إلى ضرورة العمل وبسرعة لعرقلة هذا الصعود. لم يتحرك من رؤساء أميركا إلا هذا الأخير، دونالد ترامب، حتى رأيناه خلال الأيام الأخيرة يعلن الحرب على الصين، ويبدأها تجارية.
لم يكن قرار ترامب شن الحرب على الصين عفوياً، هذا القرار، مثل غالبية قراراته، حمله معه منذ الحملة الانتخابية. لم يأت وليد اللحظة أو ضمن مجموعة قرارات يعتبرها تصحيحية. هذا القرار تحديداً تحدث عنه مرات عدة معتبراً إياه الرد المناسب على انحدار مكانة أميركا والحل السريع لاستعادة مكانتها على القمة، وهو ما يعني العمل لمنع وصول الصين إليها.
لا يعني هذا المثال أو ذاك أن الولايات المتحدة صارت، أو ستصير، بفضل دونالد ترامب دولة أقوى وأحسن حالاً. هناك من الدلائل ما يشير إلى أن أميركا فقدت كثيراً بسبب أساليب ترامب في الحكم وإدارة البيت الأبيض وبسبب حال الاستقطاب الرهيب في المجتمع، إلا أن المثالين اللذين أوردتهما في هذه السطور يعنيان في الوقت نفسه أن قوى مؤثرة وفاعلة تستفيد من شخصية ترامب وقناعته بأهدافها لتحقق التغيير المطلوب داخل أميركا وخارجها.
ترامب ليس رئيس «مصادفة»، وليس ظاهرة عابرة بذهابه أو اختفائه تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه. لا أظنها زلة لسان كلمات ترامب عن العنف الذي سوف يقع لو لم يمر تشريع بعينه أو ينفذ له قرار محدد، ولا أظنها انفعالات طارئة دفعته ليرفض إدانة أعمال تيارات اليمين القومي المتطرف أو ليعلن كرهه للإسلام والمسلمين واحتقاره أفريقيا حكومات وشعوباً وعزمه وقف هجرة المكسيكيين وغيرهم من أهالي أميركا الوسطى.
ترامب قد يكون بداية عصر.
عن “الحياة” اللندنية