تلتقطني سيارة العمل من أمام بيتي في السابعة صباحًا، ثم تعيدني في الثالثة عصرًا، ما بين الوقتين هو يوم عملي. بدأت غربتي في اليوم الأول لعملي بالمدرسة الخاصة، هذه ليست مدرسة أنا الآن في فندق سبع نجوم، كل شيء لامع نظيف مرتب، لكنه بارد، لا دفء لا حميمية، لا وجود لأي صورة ذهنية تظهر على سطح ذاكرتك عندما تسمع كلمة مدرسة.
أين رائحة الطباشير؟ أين السبورة؟ أين التختة؟ أين أبلة الناظرة؟ أين السيد المربي الفاضل ناظر المدرسة؟ أنا الآن في مدرسة افتراضية مثلها مثل الفيس بوك، حيث كل شيء على خلاف حقيقته.
المدرس أو الإداري المصري اسمه “مستر”، المدرسة أو الإدارية المتزوجة اسمها “مسز”، والآنسة اسمها “مس”. قالت لي رئيستي: راتبك سيكون ألف وخمسمائة جنيه مصري ثم لا حقوق لك فوقها.
الورقة الثانية
كان بدء عملي في شهر أغسطس الحارق، دخلت المدرسة فرأيت حديقتها قد أصبحت “بلاج” نعم بلاج بلباس بحر يرتديه أطفال، أصغرهم في عامه الثالث وأكبرهم في عامه الثامن. تركت البلاج وتفرغت لتأمل الأمهات اللاتي يقذفن بأولادهن إلى حديقة المدرسة، الأم منهن صحت لتوها من نوم مغشوش، ترتدي شيئًا لا أعرف له اسمًا، وفوق هذا الذي لا أعرفه ترتدي ما يشبه “الروب”، ما تلبسه يظهر مساحات شاسعة من جسدها، تهبط الأم من سيارتها الفاخرة متأففة، هي لم تشبع من نومها بعد، بين أصابع يدها اليسرى سيجارة، وتقبض بيمناها على “مج” نسكافيه، حتمًا هو بدون سكر، للحفاظ على وزنها المثالي، لا تمنح طفلها حضنًا ولا حتى قبلة في الهواء، تتركه لنا وتغادر.
قالت لي رئيستي: هذا ليس “بلاج”، هذا معسكر صيفي summer camp، إدارة المدرسة تحصل على ألف وثمانمائة جنيه أسبوعيًا من ولي أمر الطفل المشارك في المعسكر.
سألت نفسي: ما الذي سيتعلمه الصغار مقابل كل هذا المال؟ حصلت بنفسي على الإجابة: هم هنا لكي تتخلص منهم أمهاتهم المتأففات المدخنات، يغرق أحدهم صاحبه بفقاعات الصابون، ثم تأتي معلمة مهيبة لكي تقص عليهم بالإنجليزية قصة عن الديناصور الذي يطير ويساعد الفراشة في النجاة من اللهب. كنت أشعر بغربة شجرة صفصاف وجدت نفسها في بهو فندق أوربي.
في اليوم الثالث للمعسكر، قذف صبي صاحبه بزجاجة ماء، طلبت منه بوصفي المشرفة الاعتذار لصاحبه، رفض بعناد بغل استرالي، شكوته للرئيسة، تحدثت إليه الرئيسة طويلًا إلا أن الصبي ابن السنوات الأربع صرخ في وجوهنا جميعًا:”لن أعتذر، وسأقول لمامي، وهى تستطيع ضربكم جميعًا بالجزمة “! إنها نظرية “بفلوسي يا كلاب”.
في اليوم التالي لتلك الواقعة شكوت الصبي لأمه المتأففة فقالت: “نعم هو عصبي بعض الشيء لأن أباه مسافر دائمًا”. الأم تدفع شهريًا سبعة آلاف ومائتي جنيه لكي يهددنا ابنها بضربنا بالحذاء.
الورقة الثالثة
كنت حريصة على معرفة مصاريف المدرسة التي هي فندق. مصاريف KG، ستكون مصيبة لو قلت الحضانة أو الروضة، ستة وسبعين ألف جنيه يضاف إليها عشرة آلاف للباص وسبعة آلاف لوجبة الغداء. هذه خمسة وتسعون ألف جنيه مصاريف طفل دون الخامسة من عمره. مصاريف الابتدائي مثلها، ومصاريف الإعدادي تصل إلى مائة وسبعة آلاف جنيه. هل قلت لكم أن راتبي هو ألف وخمسمائة جنيه؟
الورقة الرابعة
كنت أنتظر على أحر من الجمر بدء العام الدراسي لكي أتخلص من عبء الإشراف على المعسكر الصيفي. مع نسمات سبتمبر اللطيفة بدأ العام الدراسي الذي لا يستمر لأكثر من ثمانية شهور من العام. ليس في كل هذا العالم ما هو أبهج من الأطفال، حتى هذا الذي هددنا بحذاء أمه، هو أيضًا مبهج.
جاء صناع البهجة، ولكن كيف ترتدي ناهدة الصدر من طالبات الإعدادي “شورت” يكاد يحترق من فرط سخونته، فوق الشورت قميص قصير وضيق، ما علينا، لست مشرفة على لباس الطالبات.
المعلمات يلبس ملابس تصلح للسهرة، أليست هناك ملابس للعمل وأخرى للسهرات ؟ من الواضح أن ذلك الفرق هو في عقلي أنا فقط.
وقفت مع المشرفات في طابور أول يوم دراسي. كل شيء نظيف لامع منظم ولكنه بارد. كل ما أعرفه عن طابور الصباح لا وجود له هنا، لا كلمة صباح، ولا دعاء بالتوفيق، ولا أغنية وطنية تثير الحماس، الشيء الوحيد الذي سجل حضوره كان الحديث بالإنجليزية.
قلت في نفسي: حتمًا لن تفوتهم تحية العلم، ففي النهاية هذه مدرسة مصرية مقامة على أرض مصر، فليس أقل من ” تحيا جمهورية مصر العربية” نرددها ثلاث مرات. نعم أنا قديمة عتيقة، لكن ما الحداثة في تجاهل تحية العلم؟.
موسيقى غربية صاخبة أعادتني إلى أرض الواقع، طابور أول يوم مدرسي تزفه موسيقى صاخبة بينما علم ناحل يرفرف في حزن فوق سطح المدرسة.
الورقة الأخيرة
غادرت طابور الصباح، صعدت السلم إلى سطح المدرسة، وقفت انتباه أمام سارية العلم، ضربت الأرض بقدمي اليمنى، قدمت لعلمي “تعظيم سلام”، سلّطت عيني عليه وهتفت: “تحيا جمهورية مصر العربية”، ثم مسحت دموعي.