(1)
مع كل واقعة توتر دينى تحدث على أرض مصر المحروسة.. مصر التعددية.. يحتار المرء ماذا يكتب. فلقد اجتهدت، مع غيرى، ومن قبلنا أساتذتنا، فى فهم أسباب التوترات وتداعياتها، كذلك محاولة تقديم الحلول المناسبة لها. ولكن كان هناك، دوما، «تعالٍ» على هذه الاجتهادات. ما أدى إلى أن نصل إلى وضع «صراعى مفتوح» ينزع فيه طرف إلى إقصاء الطرف الآخر ويسلبه، ليس حق العبادة فقط، وإنما حق الوجود من خلال قتل الآمنين وتدمير ممتلكاتهم. وما مشهد الصلاة فى الشارع على الموتى وسط الأطلال إلا شاهد على خطورة الأحوال، خاصة أن كل هذا يتم فى إطار المجال العام وعلى مرأى ومسمع من الجميع. وهو مشهد- أظنه- يختلف كليا عن بدايات انطلاق التوترات الدينية فى سنة 1970. فمن هجوم مخطط من قبل جماعات العنف كان محل إدانة جماعية إلى نزعة تدميرية تقابل بصمت مثير. ما يدفع كل وطنى مخلص إلى ضرورة الانتباه إلى أن هناك تحولات جادة فى طبيعة التوترات الدينية من جهة. ومن جهة أخرى إلى تراجعات حادة فى معالجتها. وأصلا فى ضرورة الوقاية منها.
(2)
فيما يتعلق بالتحولات التى طالت طبيعة التوترات الدينية نشير، فى عجالة، إلى أنها باتت ممتدة ومتعاقبة منذ سنة 1970، وشهدت مراحل نوعية أربع كما يلى: أولا: عنف الجماعات الدينية، وثانيا: إصابة المجتمع بالاحتقان المزمن، وثالثا: مرحلة السجال الدينى، ورابعا: ذروة التوترات والتى تمثلت فيما أطلقنا عليه «التناحر القاعدى» والذى مثل نقلة نوعية فى مسيرة هذه التوترات من حيث- كما أشرنا- انتقال العنف من عنف الجماعات المنظم إلى عنف الجماهير القاعدى فى ضوء «ثقافة مجتمعية مانعة للتعدد وكارهة لفكرة مصر المركب الحضارى». وهى الثقافة التى انتشرت وسلكت سلوكا «فيروسيا تفكيكيا» فى الجزء القاعدى من البناء المجتمعى الأقل تنمية، والأكثر فقرا. وأدوات وعلاقات إنتاجه بدائية. ومن ثم بلغنا مرحلة جديدة خامسة تتسم «بالنزعة التدميرية».. وهنا تكمن جدية التحولات وخطورتها.. والتى واكبتها تراجعات حادة فى مواجهتها.
(3)
فبالرغم من الاهتمام الرئاسى غير المسبوق تاريخيا بمعالجة تداعيات التوترات الدينية، إلا أن هناك تراجعات حادة على المستويين السياسى والميدانى، نرصدها فى الآتى: أولا: غياب وتغييب الأطراف الوسيطة من: قيادات مجتمعية طبيعية مثل العمد، وشيوخ البلد، ووجهاء الريف. وقيادات سياسية حزبية، ومدنية أهلية. والتى كانت تلعب دورا مانعا للتوترات قبل حدوثها، وترطيبيا، وتفاوضيا بعد حدوثها. ما دفع لكى يكون الصراع محتدما ومفتوحا دون أى عوامل ضابطة. ثانيا: ضعف دور المؤسسات الرسمية والمدنية ذات الصلة بقضايا التوتر الدينى والتى تعلن دوما اهتمامها بهذا الشأن من خلال أنشطتها المختلفة التدريبية والإعلامية. ولكن تثبت الأحداث أنه ليس لديها خطط وقائية لاحتواء الأزمات قبل حدوثها ولا خطط علاجية بعدها. ثالثا: ترك الأحداث تتفاعل بحسب موازين القوى على أرض الواقع دونما النظر إلى الحقوق الدستورية والقانونية. حيث بدأ التعاطى مع مسألة التوتر الدينى على أرضية الدولة الحديثة من خلال لجنة تقصى حقائق برلمانية. وتراجع الأمر إلى القبول «بالعُرفى». وأخيرا التعايش مع الأمر الواقع لحين ميسرة. رابعا: غياب الشفافية وتداول المعلومات حول حقائق الوضع الميدانى. خامسا: تراجع الرصد العلمى لما طرأ على طبيعة التوترات الدينية من مستجدات ومن ثم طرح العلاجات الملائمة. فلايزال البعض يستدعى «تقرير العطيفي» الذى وضع منذ ما يقارب النصف قرن (46 سنة)، بالرغم من أن هناك تحولات جادة قد طالت التوترات الدينية.
(4)
وبعد، علينا الانتباه، والتكاتف فى «التراجع» عن التراجعات، والاهتمام بفهم ما جد من تحولات على طبيعة التوترات الدينية، فنحن لسنا فى زمن تقرير العطيفى، والملابسات المرافقة للتوترات الراهنة مخالفة تماما، ومسرح الأحداث بات مغايرا تماما. فالقرية المصرية- مثلا- يحكمها وجهاء جدد يميلون إلى المحافظة الثقافية ويوظفون القوى الدينية السلفية لحسابهم. والجهاز الإدارى تابع فى غيبة السياسيين والأحزاب والقيادات الطبيعية القديمة مثل: الطبيب الواعى أو المعلم أو المهندس الزراعى أو البيطرى الذين يسعون لتقدم القرية ومنحازون للغلابة، كذلك تراجع سطوة الحكماء من القدامى مثل العمدة وشيخ البلد. وغيبة ملاك الأرض الذين يتسمون بالمدنية. كذلك القيادات الاجتماعية التنموية… إلخ، بالإضافة لغيبة المدنيين الأقباط، ومن ثم ترك رجل الدين وحده فى المواجهة فإما يخنع أو يقاوم. ومن ثم ترك أطراف الصراع تواجه بعضها البعض على نحو ما نراه.. وبعد، علينا فورا إطلاق حزمة حلول ثلاثية كما يلى: أولا: الإنذار المبكر، وثانيا: التدخلات التنموية الملائمة، وثالثا: تفكيك الثقافة المجتمعية المانعة للتعددية (وهو موضوع يحتاج إلى حديث تفصيلى).. وقبل كل ذلك إعمال القانون.