منوعات

الهابتيوس.. مارد يحكم حياتنا

كان عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو هو من كشف عن كامل ملامحه، وإن تداول الفلاسفة اسمه منذ أرسطو حتى المعاصرين منهم أمثال هوسرل وميرلوبونتي، وعلماء أنثروبولوجي مثل طلال أسد ومارسيل موس، وحتى علماء اجتماع آخرين من قبيل دوركايم وماكس فيبر وألفريد شوتز، لكن بورديو وحده من كشف عن طبيعة مهمته وحجم الدور الذي يلعبه في حياتنا.

تعدد المجالات التي استخدم فيها “الهابتيوس” كمفهوم اكسبه غموضا، وحصر كثير من المتعاطين معه في زاوية سوء الفهم ليتبعه بالتأكيد سوء الاستخدام، ورغم كونه من المفاهيم المركزية في أعمال بورديو، فإن ذلك لم يُزل في رأي البعض كل التباس بخصوصه.

ولتعريف الهابتيوس يستعمل بورديو مفهوم البنية ليصفه بأنه “بنية مُبنيِنة ومُبنينة” تتحكم في سلوك الناس وممارساتهم، وهي مُبنيَنة من خلال خبرات الفرد الماضية والظروف المحيطة، كطريقة التربية والطبقة الاجتماعية والمستوى التعليمي..، ومبنيِنة حيث يسهم الهابتيوس في سبك سلوكيات وممارسات الفرد وأفعاله المستقبلية، وهذا المصطلح “البنية” يدلل على أن هناك نسقا يجمع الممارسات والأفعال بجانب الاستعدادات (النوازع) التي يترتب عليها بالتبعية أفعال المرء وممارساته.

بيير بورديو

ولكي لا يتصور البعض أن بورديو  يرمي إلى الحتمية بإشارته إلى دور الهابتيوس في توجيه حياة الناس، فإنه يوضح أن أفعالهم هي نتاج “علاقة ملتبسة ومزدوجة” بين هابيتوس ما وحقل معين (يرى بورديو أن أي مجتمع ينقسم إلى مجموعة من الحقول: الثقافي، السياسي، الفني، الاقتصادي..، ويتمتع كل حقل باستقلال نسبي عن المجتمع، ويحتوي المفهوم “الحقل” العلاقات التي تكون يبن الفاعلين داخله والتحالفات التي يعقدونها، وطبيعة الصراعات بينهم: في أي اتجاه تكون، للتغيير أم للمحافظة على الوضع القائم..). إذن نحن أمام بنيتين: بنية الهابتيوس وبنية الحقل، ويرجع الالتباس والازدواج إلى كون الحقل بما أنه مكون رئيسي في السياق اليومي لنا يقوم ببنينة الهابتيوس، في الوقت الذي يوجه فيه الهابتيوس الفاعلين الاجتماعيين في حياتهم بصفة عامة، والتي بطبيعة الحال تتضمن الحقل.

الهابتيوس إذن بلغة أقرب إلى الوضوح، هو سياق يضم كيفية تنشئتنا، طريقة تفكيرنا، ميولنا ورغباتنا، أحساسينا وأفعالنا، وكيف يشكل كل هذا الحاضر. كما يفسر لماذا نسلك هذا السبيل دون غيره، وهنا يتداخل الحقل على اعتبار أن الظروف المحيطة ليست من صنع أيدينا بل تعود لموقعنا في حقل اجتماعي معين، والاثنين “الهابتيوس والحقل” هما في طور من التشكل المستمر.

وكما يربط الهابتيوس بين الماضي والحاضر والمستقبل فهو يربط كذلك بين الذاتي والموضوعي، المجتمعي والفردي، فحياة الفرد وإن تفردت، استنادا إلى قاعدة أرساها علم النفس: كل إنسان هو كائن فريد متفرد؛ تشترك مع الآخرين المنتمين لذات الجنس أو الطبقة الاجتماعية أوالبلد أو الوظيفة..إلخ (الحقل) في خبرات كثيرة، لذا فكل واحد منا يكون “بمثابة تصميم فريد للقوى الاجتماعية”.

هذا يعني أن العلاقة بين الهابتيوس والحقل ممتدة وديناميكية، وعلى درجة كبيرة من التناغم، (وإن لم تخلو من تعارض أحيانا) ليتيح ذلك أداة تفسيرية لسلوكيات الفرد، فمثلا قد يقع أحدنا في موقف ما ويقرر ألا يتصرف بصورة معينة  تخرجه من ورطة ما مستندا إلى أنه “لا يصح أن يقوم بذلك”، هذا معناه أن الهابتيوس الخاص بالفرد لم ينسجم مع الحقل الاجتماعي الذي ينتمي إليه الظرف أو الموقف.

وفي حالات أخرى قد يحدث العكس، عندما تختلف وتيرة التغيير في حقل اجتماعي ما عن مثليتها في الهابتيوس، كأن تكون أسرع أو في اتجاه معاكس، حينها يقع أيضا عدم الانسجام بين الهابتيوس والحقل، بحيث يبدو الفرد وكأنه محافظا متحجرا، رافضا للتغيير، ينتمي لعصر مضى.

كما يغذي الهابتيوس مسار معين دون آخر فقد يجعل من الطبيعي مثلا أن يلتحق شخص ما بالتعليم الجامعي وآخر بالفني، وذلك عبر عدد لا يحصى من المحفزات التي يتعرض لها كل منهما خلال التنشئة، لتُكَون تصوراتهما المستقبلية، حيث يتعامل الأول الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى مع مسألة الالتحاق بالجامعة كخطوة تلقائية تلي تخطيه المرحلة الثانوية، بينما الآخر الذي ينتمي إلى طبقة فقيرة يرى أن هذا المسار “ليس لأمثالنا”.

وهذا ما جعل بورديو يذهب إلى القول أن الافراد “يستدخلون” عبر التنشئة والبيئة المحيطة التي تشكل الهابتيوس “الفرص الحياتية التي تعرض لهم”، ليُمَكّنهم ذلك بدرجة كبيرة من استشراف مستقبلهم.

إن رؤانا عن أنفسنا وقدراتنا، وتصوراتنا عن طموحاتنا، وتوقعنا لشكل حياتنا، وإحساسنا بما هو معقول وما هو غير معقول، وإدراكنا لما يمكن أن نعتبره بديهيا يجب أن نقوم به وما لا يجب؛ كل هذا في تصور بورديو ليس فطريا، بل يعود إلى ما يقرره الهابتيوس، الذي يضم خبراتنا والتي بدورها تشكل وعينا ولا وعينا كذلك، ليتحكما في كل ما نراه محتملا وجائزا وضروريا ومقبولا أو مرفوضا، وجميع ما نقدم عليه من أفعال وممارسات..

هذا العرض الخاطف الذي ينقل واحدا من أهم المفاهيم التي أرساها بورديو “الهابتيوس” من علم متخصص كالسوسيولوجيا إلى الفضاء العام قد يراه البعض غير ذي نفع، لكني أتصور أن تقديمه للقارئ يمكن أن ينبه إلى الكيفية التي تتشكل بها ماهية كل منا، وأن يؤشر على إمكانات جديدة تختبئ وراء قدرتنا على الوعي بما يعتمل بدواخلنا وبما يدور في حقولنا، وإلى أي حد قد تبلغ مقدرتنا على تطوير أو تعديل الهابتيوس الخاص بنا، أو أن نصل إلى الحد الذي يصبح فيه التفكير تبعا للهابتيوس جزءا من الهابتيوس، ليقودنا هذا إلى ثورة عقلية تغير نظرتنا للعالم من حولنا.

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock