عام 1984 كنت طالبا في السنة الثالثة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وعضوا في أسرة العروبة، إحدى الأسر الناصرية التي كانت منتشرة في أكثر من كلية، كعنوان عريض يمكن العمل تحت مظلته بالأنشطة الثقافية التي كانت متاحة في ذلك الوقت.. أذكر ذات يوم أنني وبعض الزملاء قررنا تنظيم معرض للكتب التي تركز على القضايا العربية والفكر القومي، فنصحنا البعض بالتوجه إلى دار الموقف العربي «حصن العروبة» الذي يلجأ إليه الراغبون في صقل وعيهم وزيادة حصيلتهم المعرفية في هذا الميدان.
توجهنا إلى الدار ولدي اعتقاد أن القائمين عليها، كأي أصحاب مشروع تجاري، وإن كان في ميدان النشر، سيتعاملون معنا بمنطق كم نسخة من كل كتاب نريد، وكيف سيحصلون على أموالهم، غير أن لقائي بالأستاذ فتحي عبد الفتاح المدير المسئول، بدد كل تلك الأوهام، بحسن اللقاء وطيب المعاملة. حملنا ما استطعنا إليه سبيلا من الدار التي لم أشرف وقتها بلقاء رأسها ومؤسسها الأستاذ عبد العظيم مناف الذي رحل عن عالمنا في مثل تلك الأيام قبل عامين، غير أن ما تولد لدي عن الرجل من مشاعر جعلني أرتبط بشجرة «الموقف العربي» الوارفة، على مدى ثلاثة عقود حفلت بالعديد من التجارب الصحفية التي مثلت مدرسة كانت كفيلة بتعليمنا فنون المهنة ووضعنا على أرض ثابتة في بلاط صاحبة الجلالة.
بداية الرحلة
بعد تخرجي في كلية الإعلام بشهور قليلة التحقت بقسم التحقيقات في «صوت العرب» تحت رئاسة تحرير الراحل الكبير، طبعا لم تكن ظروف العمل تسمح بالتعامل اليومي مع الأستاذ عبد العظيم، لكن هذه الفترة من سنوات النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي أتاحت لي معايشة بعض المواقف التي لا تنسى معه.
في صيف عام 1987 الذي صادف شهر رمضان المبارك، قررنا كزملاء في قسم التحقيقات (الذي كان يرأسه الأستاذ أحمد عز الدين، وتخرج فيه نجوم في عالم الصحافة الآن) الإفطار معا في الموقف العربي، حيلة منا لتحميل الدار النفقات.. توجهت إلى مكتب الأستاذ عبد العظيم طالبا مقابلته لأمر هام، فسمح لي بالدخول على الفور، ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهي وأنا أوجه دعوة لرئيس التحرير لمشاركتنا الإفطار، فبادرني بسؤال ينم عن فراسة نادرة الوجود: الإفطار على نفقتكم أم نفقة وزارة الإعلام؟ هو يقصد بالطبع «صوت العرب»، وكان ردي: «أنه على نفقتنا لكن نرحب بمشاركة وزارة الإعلام». وقد تحملت للتاريخ الفاتورة كاملة.
أقلام جديدة
دارت الأيام و«صوت العرب» ترتقي سلم الصحافة الناجحة بأسرع ما كان يتوقع لها أكثر المتفائلين بتجربة شابة، حيوية في البشر والأفكار لم تتوفر لأية تجربة أخرى في زمانها، أذكر أنه في الاحتفال بعيد ميلاد الجريدة الأول، أجرينا استطلاعا لآراء كبار الصحفيين حول رؤيتهم للتجربة الوليدة، فكان رأي الأستاذ صلاح عيسى مدير تحرير الأهالي وقتها، أن أهم مميزات «صوت العرب» هو «تقديمها لأقلام جديدة».
تلك الأقلام التي تحدث عنها الأستاذ صلاح عيسى، رحمه الله، تتبوأ الآن أهم المواقع في العديد من الصحف المصرية، وأمتد عطاء بعضها إلى خارج الوطن في أكثر من صحيفة عربية كبيرة. وفضلا عن الأقلام الجديدة التي احتضنتها صوت العرب، كانت الدار منبرا لأقلام وطنية شريفة، منها على سبيل المثال لا الحصر، الأساتذة محمود المراغي، عبدالله إمام، ضياء الدين داوود، كمال حافظ، نجاح عمر، واللواء طلعت مسلم، كما كانت الجريدة ساحة للتعرف على أشقائى الكبار قيمة ومقاما، الأساتذة عبدالله السناوي، وعبد الحليم قنديل، ومحمد حماد، وجمال فهمي، والشاعرين الراحلين أسامة عفيفي، وعمر نجم.
محمود المراغي صلاح عيسى
هجمة أمنية
مضت الأيام رفيفة، يحدونا الأمل في أن تكبر «صوت العرب» وتضرب بجذورها في أرض خصبة، وأن تطول أغصانها عنان السماء لنستظل بفروعها المثمرة، غير أن طائرا أسود حط في أغسطس 1988 على منطقة قصر العيني، وإذا بنا نستيقظ يوما على هجمة أمنية عقب أن كتب عبد العظيم مناف ردا على مقولة مبارك «إن سنة 1988 ستكون سوداء»، كان عنوانه: «فلتكن بيضاء سيادة الرئيس». وبعد تحقيقات أظهر خلالها أبو وليد كيف تكون الشجاعة والثبات في عين العاصفة، انتهى الأمر بإغلاق الجريدة.
تفرقت بنا السبل إلى حين، لكن عبد العظيم مناف المخلص لمهنته، والمؤمن برسالته، حمل حقيبته ورحل إلى عاصمة الضباب، حيث صدرت «صوت العرب» لفترة من لندن، غير أن التجربة لم تقنعه فعاد مجددا إلى القاهرة للبحث عن بدائل تضمن الوصول إلى جمهور الصحيفة التي رفعت شعار دولة عبد الناصر «الحرية والاشتراكية والوحدة».
وفي ليلة من أغسطس عام 1992 كنت أجلس والزملاء عماد الدين حسين، وأكرم القصاص، وعادل السنهوري، وحمدي عبد الرحيم، وسعيد شعيب، فوق سطح عمارة قرب مبنى محافظة الجيزة، كان يضم شقة من غرفتين وصالة، وأمامهما الفضاء الفسيح، كنا نلوك حظنا العاثر بعد أن أغلق نظام مبارك، صحيفة «مصر الفتاة» عقب تجربة كانت حافلة بالعمل والأمل أيضا بالنسبة لنا كصحفيين في بداية مشوارهم المهني.. كان بعضنا متعطلا يمضي وقته في القراءة واقتسام لفائف التبغ مع رفيقه، فيما كان العدد الأقل قد تسلل إلى بعض مكاتب الصحف العربية في القاهرة لتدبير ما يمكن أن يسد أود الراقدين فوق السطح تظلهم سماء الله العالية.. وفجأة طرق الباب في وقت غير متوقع.. قام أحدنا وأظنه حمدي عبد الرحيم متثاقلا لفتح الباب ليعود وخلفه الصديق العزيز رمضان دياب أحد الأركان الأساسية في «صوت العرب»، وقبل السلام والترحيب قال في نفس واحد: «الأستاذ عبد العظيم يبحث عنكم».. قلنا خيرا، فرد: «صوت العرب» ستعود من جديد.
الراحل عبد العظيم مناف، عماد الدين حسين، طلعت اسماعيل، سعيد الشحات
في اليوم التالي توجهنا إلى 10 شارع الدكتور حندوسة بجاردن سيتي، لنجد الدكتور عزازي على عزاي، رحمه الله، قد سبقنا إلى هناك، حيث كان «الأستاذ» في انتظارنا لإطلاق شارة البدء للإصدار الثالث من «صوت العرب»، هذه المرة من قبرص طباعة، لتوزع في أرجاء الوطن العربي. في هذه التجربة اقتربت كثيرا من الأستاذ عبد العظيم مناف، وأنا ابن التاسعة والعشرين، لاكتشف مدى رقة مشاعره ودماثة خلقه، وحنوه على الآخرين، رغم الصلابة الأصيلة في مواقفه. لم أسمعه يوما يتلفظ بكلمة جارحة، ولم أضبطه يوما يغتاب أحدا، فالناس لديه مجموعة من الطيبين الأقرب إلى الملائكة، ورغم الطعنات التي كانت تأتي أحيانا من هنا أو هناك، أشهد أن مشاعره لم تتحول يوما عن أي إنسان، فقد بقي – يرحمه الله- حسن الظن بالآخرين.
عزازي على عزازي
نهر الذكريات
قصص كثير وحكايات عديدة، يمكن أن تروى عن «الموقف العربي»، وشقيقتها «صوت العرب» وعن مؤسسهما وجامع عائلتيهما، غير أن المساحة الحاكمة تجعل نهر الذكريات يكتفي بشذرات من مسيرة الرجل الحافلة بالعطاء.. وأختم بأن «صوت العرب» كانت المكان الذي تعرفت فيه على رفيقة دربي وزوجتي الزميلة تهاني تركي، فقد كان الأستاذ عبد العظيم أول المهنئين والداعمين لتكوين أبناء «صوت العرب» بيوتا جديدة، وأذكر زيارته التاريخية لنا بعد الزواج حاملا هدية لا نزال نحتفظ بها في المكان اللائق حتى اليوم رغم مرور أكثر من عشرين عاما.
رحم الله أستاذي عبد العظيم مناف صاحب المقولات الباقية، وناظر مدرسة «الأمن القومي قبل السبق الصحفي»، و«الخبر ملك للقارئ، والتحليل ملك للصحيفة»، فهذه العناصر في نظر أبو وليد تمثل «البوصلة، البصمة، والعصمة». عصمنا الله من الانزلاق بعيدا عن نقاء توجهه، وصدق مواقفه، وإخلاصه لمبادئه.
الاستاذ الوفي الخلوق الفاضل ابن الاصول ابو حسام انا يعرف الفضل لاهله ذوو الفضل ذكرتنا بايام سعدنا بها وشقينا ولا يزال لظاها بجول في القلب رحم الله استاذنا الكريم واجزل مثوبته فقد راينا منه خيرا كثيرا وتشجيعا حانيا ايام كنا زغب الحواصل لا ظل ولا ثمر