منوعات

ولنا في الملل حياة

هل يمكن لشعور إنساني يقع على هامش الحياة البشرية أو هكذا يظنه كثيرون أن يكون محركا للتاريخ، يقيم حروبا ويؤجج ثورات ويدفع باختراعات واكتشافات تغير وجه التاريخ؟.

إذا قرأت رواية الأديب الإيطالي الشهير ألبرتو مورافيا “الملل” ستطالع إجابة السؤال عبر صفحاتها، والتي ستكون بنعم. مورافيا يرى أن شعورا كالملل دفع آدم وحواء إلى ارتكاب الخطيئة الأولى، ومل أحد أبنائهما من الحياة على الأرض فقتل أخيه.

ومن الملل من أوروبا اكتشف الأسبان أمريكا، ومن الملل من الكرة الأرضية ظهرت الأقمار الصناعية، ودفع الملل من الإقطاع الفرنسيين للثورة، وقامت الثورة الروسية بعد أن مل الناس من الرأسمالية، ومن الملل من المثالية ظهرت الشيوعية..

ويدعم الفيلسوف البريطاني برتراند راسل رؤية مورافيا، فأثبت للملل أنه “كان من أعظم القوى المحركة عبر الحقب التاريخية، ولا يزال كذلك أكثر من أي وقت مضى..”.

برتراند راسل

ورأى راسل أن الرغبة في التخلص من الملل سعيا وراء الإثارة ذات جذور عميقة في البشر، خاصة لدى الذكور، أما إشباع هذه الرغبة فكان أسهل كثيرا في الأزمان القديمة عنه في أي زمن لاحق، وتحديدا في عصر الصيد، حيث المطاردة كانت مثيرة، والحرب كانت مثيرة، وممارسة الجنس كانت مثيرة،ثم جاء  عصر الزراعة حيث الاستقرار والرتابة التي لونت حياة الناس بلون كالح، باستثناء الأرستقراطيين الذين استمرت حياتهم على ذات الوتيرة كأنهم لم يبرحوا عصر الصيد.

مقالات ذات صلة

هذا الأثر البالغ للملل لا يعيه غالبية الناس، لا يعون الشر الذي يمكن أن يدفع إليه الملل، والألم الذي قد يتسبب فيه. يعلل عالم النفس إريك فروم غفلة الناس في العصر الحديث عن أثر الملل في حياتهم بأنهم أنتجوا الكثير من الأشياء ظنوا أن بإمكانها القضاء على الملل، كي لا يسيطر على وعيهم، لكن الأمر في أحيان كثيرة لا يصل بهم أبعد من “قتل الوقت”.

للملل أنواع عددها عالم النفس الألماني مارتن دولمان، فتحدث عن “الملل الوجودي”، الذي يتواجد في حياة الأفراد عندما يختفي المعنى من حياتهم، وهو دائم وعميق، والملل الظرفي الذي ينقسم إلى: ملل بسيط يرتبط بمواقف وأحداث معينة وينتهي بانتهائها، والملل المزمن وهو نوع من الملل يرتبط بأغلب أحداث حياة الفرد اليومية، ويتسبب فيه أحيانا مشكلات بيولوجية، مثل النقص في مستقبلات الدوبامين.

ومن مكونات الملل الرئيسية ـ كما يرصدها برتراند راسل ـ عدم إتاحة الفرصة للتوظيف الكامل لقدرات الفرد ومواهبه، كما أن مقارنة الفرد الدائمة لظروفه القائمة بأخرى كان يفترض أن تكون يدخل في نفسه الشعور بالملل، ينقذه من هذه الحال وقوع الأحداث عبر حياته اليومية حتى وإن لم تكن مفيدة أو ممتعة، فوقوعها في حد ذاته قد يكسر حاجز الملل.

ويوجه راسل نصيحة للكتاب الشباب “الذين يدورون حول الأحاسيس بأن العالم ليس فيه شيء مهم ليعلموه”، حتى لا يقعوا في براثن هذا الشعور المؤلم “الملل”، فيلتهم طاقاتهم وحيويتهم، ثم يلفظهم أرواحا خاوية لا نفع فيها:دعوا محاولة الكتابة وبدلا من ذلك حاولوا ألا تكتبوا، اذهبوا إلى العالم، ولتصبحوا قراصنة، أو ملوكا في بورينو، أو عمالا في روسيا، وامنحو أنفسكم وجودا يستحوذ فيه إشباع رغباتكم الجسدية الأولية على طاقاتكم.

الأديب الإيطالي ألبرتو مورافيا

قد لا يستطيع كتاب اليوم مسايرة راسل في نصيحته حيث طبيعة الحياة الحالية أشد قسوة من ذي قبل، وقيودها أحكم وثاقا، وهذا يجعلها في العادة ـ رغم تسارع وتيرتها ـ تنتظم هادئة رتيبة، لا يخلخل رتابتها الوسائل التكنولوجيا المتوافرة التي يتم توظيفها في مواجهة الملل، حيث لا تفضي في كثير من الأحيان إلى أكثر من قتل الوقت، ليستتبع ذلك شعورا بتأنيب الضمير، وحتى لا يسقط المرء فريسة لهذا الشعور السلبي يوجه مورافيا نصيحة أخيرة جامعة قد تعفي المستمع إليها من الملل: أن نحب، أن نجدد صلاتنا بالعالم الخارجي، أن نحس أن هناك صلة‏، وأن كل شيء في متناولنا، وأن كل ما في الدنيا هو عبارة عن يد ممدودة لتصافحنا‏، ‏وأن كل ما في الدنيا شفاه في انتظار تقبيلنا لها‏، ‏فالفرار من الملل هو أن نفكر جديا في الملل‏.‏

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock