رؤى

حيدر إبراهيم: الإسلام السياسي انتهى وينتظر الدفن

تشكّل أضلاع المربع الفكري (التنوير، التحرير، التغيير، التثوير) محاور فكر المفكر السوداني الدكتور حيدر إبراهيم، لكنها لا تنحصر فقط في تلك النماذج، بل تتوزع علي كتابات أخرى عديدة، وهو ما يميز فكر الرجل النقدي الذي يتعارك مع واقعنا المعاصر ويتشابك معه بشكل دوري .

يناقش حيدر إبراهيم بين الحين والآخر مفاهيم الإسلام السياسي في السودان ومصر والعالم العربي، بل أنه يعتبر أن الإسلام السياسي لا يزال مستمرا في السودان كنظام حكم وليس كفكر. وهو يعزو فشل تجربة الإسلام السياسي في العالم العربي إلى “الرغبة بإقامة دولة دينية على أساس العقيدة وليس المواطنة”.

وهو يرى أن التساؤل عن هوية السودان عربية كانت أم أفريقية لا يزال قائما، لكنه يعتبره “تساؤل لا معنى له”، ويصف ما يسميه بعض الاسلاميين في السودان وخارجها بـ”التجديد” بأنه “إلهاء للعقل العربي عن تحدياته الحقيقية”.

أصوات” التقت المفكر وعالم الاجتماع المرموق، وكان لنا معه هذا الحوار :

لماذا يطلق عليك البعض جرامشي السودان؟ 

ربما لدوري النقدي للحركات الإسلامية، فقد ناقشت الاختلالات فى مفهوم التجديد عند الصادق المهدي، لم أتطرق لمواقفه السياسية ولكن تطرقت لفكره داخل الطريقة المهدية وفي الدين عموما .لقد دخلت مع المعارضة السودانية في جدل وصنعت مفهوما نقديا  للحركة الشعبية ومجموعات دارفور، وفي تصوري، فإن أي عمل فكري يفتقد القدرة علي النقد يسقط. أنا درست علم الاجتماع في فرانكفورت وهناك تسمى المدرسة النقدية، والأصل في العمل الفكري هو النقد وعمل المراجعات لكل التراث الفكري وبالتالي تمت مراجعات لكل الفكر الفلسفي والتراث الإنساني الأوروبي.

 ماذا تريد من الدين؟ الإسلام السياسي يريد توظيف الدين للوصول إلى السلطة، لذا ابتعد عن الدين وأخلاقياته، فجوهر الدين البحث عن المعني، بينما تصب السياسة في المراوغة .

ولماذا انتقدت مراجعات الجماعات الإسلامية؟

لأنها ليست صادقة ولم تقدم نقدا حقيقا لتجربتها ولم تنتقد مشروعها الأساسي، خاصة في السودان. أعطيك مثلا قضية التعذيب التي يتشدق بها الإخوان المسلمون ويعتبرونها أكبر مظلومية تعرضوا لها، هي لا توجد في السودان وأنا معارض للنظام السوداني ولكنها الحقيقة، إذ لا يمكن أن أقول أنه في أيام النميري كان هناك تعذيب، لكن السؤال هو من الذي أدخل التعذيب في السودان بعد النميري؟ الإجابة هم الإخوان المسلمين، الإخوان مارسوا التعذيب للمعارضين في السجون وأنشأوا ما يعرف ببيوت الأشباح، خاصة بعد الانقلاب الذي قام به حسن الترابي، وهذه ظاهرة لم تكن موجودة في السجون السودانية قبل ذلك، والحقيقة أن النميري بكل شراسته لم يعذب الإخوان علي الإطلاق، هم وقتها كانوا حزب أقلية لا يحصلون علي أكثر من 7%، لكن حسن الترابي سعى إلى عملية تخويف لمنع المقاومة للنظام في السودان، وكل من نقدوا التجربة لم ينقدوا التعذيب ولا “بيوت الأشباح”، مثل عبد الوهاب الأفندي، علي الطيب زين العابدين، علي المحبوب .

البعض كتب عن المسيرة الديمقراطية وتعثرها في السودان؟

نعم، ولكن من غير الإسلاميين، علي سبيل المثال البرلمان السوداني في عهد الإخوان صوت بطرد البرلمانيين الشيوعيين من المجلس رغم اختيار الشعب لهم، وهو أمر مؤسف للغاية. الكاتب حسن مكي، شقيق أحد مؤسسي الحركة الإسلامية السودانية والوحيد الذي أرخ للحركة الإسلامية السودانية، كتب مؤخرا نقدا لمسيرة الحركة الإسلامية في السودان، وقال: عندما يدخل الإسلاميون في اللعبة الديمقراطية يلعبون من الباطن، هم “حزب الباطن”، يلعبون بطريقتهم من الباطن ليستولوا علي الظاهر .

الترابي في رأيي أقرب للبعثيين والناصريين، يريد أن يحرق المراحل، وتملكه الاعتقاد أنه إن تمكن من السلطة أمكنه أن يغير المجتمع. الإسلاميون يظنون أنهم أذكى من العسكريين، في حين يتمتع العسكريون بالذكاء الاجتماعي والحياتي والمثقف العسكري أكثر ذكاء من الأكاديمي. أذكر أن عمر البشير قال في حوار صحفي له في بداية حكمه: “أنا ضابط في سلاح المشاة، وأجيد المراوغة”. في كثير من الأحيان العسكريون هم الذين ينتصرون، لكن ماذا تبقي من الإسلام السياسي؟ الذكرى فقط. سبق أن كتبت عن ذلك بعنوان: “في وداع الحركة الإسلامية“، هم لم يطبقوا من شعاراتهم  أي شيء.

هيجل عنده مصطلح  كان يتحدث عنه دائما وهو “مكر التاريخ”، و”دهاء التاريخ”. ظلَّ الإسلاميون السودانيون في الفترة الأخيرة يتبارون في نقد حركتهم بما يشبه نعيها بأسلوب رحيم، متجنبين صدمة الفراق والفقدان التي ينبغي أن يعقبها الدفن بجلال واحترام، كان عليهم لو كانوا صادقين، بعد النقد والشجب الذي كالوه لمشروعهم الحضاري، “أن يكرموه بالتشييع اللائق”.

بشروا بـ”يوتوبيا إسلامية” في السودان، فإذا بها تتحول إلى “ديستوبيا” مريرة، وعدوا بالمدينة الفاضلة فجاءوا بالمدينة الفاسدة، أعلنوا تطلعهم لاستعادة مجتمع المدينة المنورة لكنهم شيدوا مجتمع المدينة المظلمة حرفياً بانقطاع الكهرباء ووأد التنوير وأدا كاملا؟ الترابي لم يصنع تجديدا بل صنع أكروبات فكرية  وبحث عن كل الغرائبية الفكرية وقدمها للناس وقفز عليها، قال: “لا يوجد عذاب في القبر والعذاب في الحياة فقط”، واعتبر ذلك تجديدا!.

وما انطباعك عن فترة حكم الإخوان القصيرة في مصر؟

كان لي أصدقاء من الإخوان المصريين، عندما تولوا الحكم تغيروا تماما وظهر موقفهم بوضوح تجاه الليبراليين ومخالفيهم في المواقف الفكرية. الفرق بالغ بين الإسلامي في المعارضة والإسلامي في السلطة، المظلومية دائما نهج تفكير الإسلاميين  وهم في المعارضة، وهم في الحكم من أسوأ ما يمكن.

أزمتنا كمجتمعات عربية تكمن في الاعتقاد أن لدينا نقص في التدين، العكس هو الصحيح، لدينا “فائض” في التدين، لكنه تدين شكلاني. أنت تتحدث عن المثالية في مجتمع فقير، الفقر يؤدي إلي الانحلال .دائما ما نقول أن مجتمعاتنا العربية مجتمعات متدينة، فيما نعاني من نسبة تحرش جنسي كبيرة جدا، فالدين عندنا لا ينشئ الضمير الحي للإنسان، يتحول لمظهر خارجي فقط، بالتالي أخذ الخطاب الديني منحى أخر غير ما ينبغي أن يكون عليه.

ربما تكمن المشكلة في ضعف خطاب التجديد الديني؟

دعوات التجديد الديني المتكررة والمعادة تؤكد وجود عقبات تسببت في فشل كل دعوة سابقة، وإلا ما احتجنا لإعادة الكرة كلما واجهتنا تحديات جديدة، أنا استخدمت مصطلح “استعصاء التجديد”، فالدعوات الي  التجديد تراوح مكانها وتبدأ كل مرة من البداية ذاتها، لم تظهر قوى أو تيارات تجديدية قادرة علي التكيف والتعايش مع مستجدات وقضايا العصر، التجديد ليس مجرد معالجة جزئية وموسمية للإجابة على قضايا طارئة، لكنه استنباط منهج ضمن رؤية كلية لفهم الدين وبالضرورة ممارسته وتطبيقه بطريقة لا تتعارض مع العصر وفي الوقت نفسه لا تنفي خصوصيته الحقيقية لا المصطنعة.

يميل البعض إلى تداول مصطلحات متشابهات، وقد تترادف، مثل: الاجتهاد، الإصلاح، التطوير، الإحياء، الحداثة، لكن المطلوب أيا كانت المسميات أن يواكب فهمنا للدين متغيرات العصر، وإلا سنصطدم بها ونقع عبثا في محاولة مقاومة التغيير والتقدم.

وكيف ترى أداء المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر؟

الملاحظ وجود خلافات عميقة، نرى بوضوح التشويش وعدم الدقة في تعامل كثير من الكتاب الإسلاميين مع عملية التجديد، هم يفتعلون معارك وانشقاقات فكرية غير مجدية. السؤال: من هم الفاعلون الاجتماعيون القادرون على قيادة معركة التجديد مع المؤسسة الدينية وألا يترك الأمر حكرا لها؟ لا يصح أن يظل التجديد الديني عصيا تماما في المجتمعات العربية الإسلامية، وأن نبقى أسرى هذه الضوضاء الفارغة.

التيار المحافظ في المؤسسات الدينية يخلط بين التجديد والتغريب، ويروج لفكرة أن التجديد هدفه النيل من الإسلام وفرض أجندة خاصة، مثل فصل الدين عن الدولة أو إباحة سفور المرأة أو الإقرار بالربا في معاملات المصارف، هم يرون أن التجديد يراد به التبديد، أي تبديد التراث الديني عبر دعوات تجديده، وبالتالي ينظرون إليه باعتباره “مؤامرة” تحاك ضد الإسلام، لذا هم يأتون للتجديد بنصف قلب، فمطلب التجديد لم يصبح بعد جزءا أصيلا في الفكر الإسلامي المعاصر، والحديث عن التجديد يقف دائما عند عتبة البراغماتية وتنويع أدوات الدفاع عن العقيدة.

الأزهر عليه مواكبة التغيرات المتسارعة في المجتمع التي تفرضها العولمة، لكنه في الحقيقة لم يقدم ما يعكس توافر القدرة اللازمة لدية لمجابهة هذه التحديات. بورقيبة علي سبيل المثال نجح في تحجيم دور الزيتونة في تونس، لذا لم تصمد في مقاومة قوانين الأحوال الشخصية التي طرحها وقبلتها كما هي، فأصبحت المؤسسة الدينية في تونس خلف السلطة.

التيارات الدينية خلقت مع النص نصا آخر، نص له قوة الواقع، قوة السلطة، فيما أصبح التراث الفقهي نصا في حد ذاته .

هل ترى الحل في تجديد الخطاب أم تجديد الفكر الديني؟

تجديد العقيدة، هي التي تؤدي للممارسة، فالخطاب هو الجانب البشري لفهمك للعقيدة، أن تصنع نصا موازيا للنص الأصلي، فلسفة الدين أن يصبح للحياة معنى. التجديد يتعين أن نتعامل معه بالحذر الواجب، وعندما طرحت فكرة الإصلاح الديني علي كرومر، قال للأزهر: “الدين عندما تصلح فيه لا يعد نفس الدين كما جاء به الأصل”، وهذا كلام أصولي بالمناسبة.

البعض ارتكب أخطاء كبيرة في قضية التجديد، محمود محمد طه مثلا ارتكب أخطاء في مفاهيم  التجديد وطرح فكرة الرسالة الثانية وفكرة أن الآيات المكية  أكثر تطورا من الآيات المدنية، حصر الدين في الآيات المكية والمدنية، والبعض طرح فكرة الإسلام الاشتراكي، آخرون طرحوا فكرة الزكاة بطريقة مختلفة: “يسألون ماذا ينفقون قل العفو”، الزكاة ذات المقادير والعفو هو كل من زاد علي حاجتك، تم تأويل الآية بنفس الطريقة التي لجأ إليها المتطرفون مع آيات أخرى. هنا أتساءل: ماهي أدواتك في التأويل؟  سنجدها ذاتية جدا .

محمود محمد طه

 هل يمكن أن تلخص لنا معايير التجديد كما تراها؟

كل ما هو صالح للواقع ولا يصطدم به فهو التجديد .

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker