كان جمال الدين الأفغاني مٌلغزا واستثنائيا في كل شيء، مجيئه إلى مصر والمنطقة العربية في تلك اللحظة التاريخية الفارقة، دوافع قدومه، شخصيته الثورية التي ملأت الأرض ضجيجا وأفضت إلى اندلاع ثورتين في أقل من ربع قرن، الثورة العرابية في مصر، والثورة المهدية في السودان، خلفيته الدينية والثقافية وهويته التي ظلت محل جدل وتساؤل ومرتع للتكهنات، كل هذه ألغاز محيرة حول شخصية الرجل وتاريخه الحافل بالأحداث الاستثنائية، غيرها أنها ليست بالأخيرة.
تاريخ وفاة الأفغاني المحفور على شاهده في كابول يشير إلى وفاته عام 1897، أما تاريخ ميلاده فهو أمر غير ذي أهمية، على حد تعبيره، إذ يقول في بعض شذراته: “وأي نفع لمن يذكر أني ولدت سنة 1254هـ، وعمرت أكثر من نصف عصر، واضطررت إلى ترك بلادي، الأفغان، مضطربة تتلاعب بها الأهواء والأغراض، وأكرهت على مبارحة الهند، وأجبرت على الابتعاد عن مصر أو إن شئت قل نفيت منها ومن الآستانة ومن أكثر عواصم الأرض”.
والحق أن قدومه إلى مصر كان بمثابة إلقاء حجر ضخم في مياة آسنة راكدة بلا حراك. ما أن قدم الأفغاني إلى مصر حتى اجتمع من حوله جيل من الشباب المتمرد الذي لم يضع يده على قضيته بعد، فإذا به ينير لهم الطريق ويرسم لهم مسارات النضال: الثورة على الظلم الاجتماعي، والإصلاح الإداري للدولة، ومواجهة الأطماع الأجنبية.
صار مقهي متاتيا الشهير، بميدان العتبة في وسط القاهرة، صالونه الخاص الذي استقطب فيه يعقوب صنوع، وعبدالله النديم، ومحمد عبده، والشاب توفيق وريث عرش إسماعيل وآخرين، كما انتشرت تعاليمه عند ضباط الجيش والأدباء والمفكرين المصريين والشوام.
يعقوب صنوع، الإمام محمد عبده، عبدالله النديم
سرت أنفاسه الثورية كالنار في الهشيم تلهب حماس جمهور مريديه، فخاض يعقوب صنوع بكتاباته ورسومه الكاريكاتورية ومسرحياته المشاكسة الصراع إلى آخره ضد الخديوي اسماعيل، وثار عرابي في وجه القصر وضد مطامع وتدخلات القوى العظمى في مصر، وانحاز النديم لثورة عرابي بكتاباته وخطاباته الثورية. فقط ظل الإمام محمد عبده محافظا لا ينجرف مع حماسة الثوار الشبان، وكثيرا ما لامه الأفغاني بقوله: “والله إنك لمثبط”. وكتب عنه الأفغاني في العروة الوثقى: “ثم كان ما كان من الثورة العرابية، فبذل جهده (محمد عبده) في اقناع أهلها بسوء عاقبتها حتى هموا كثيرا بقتله”. وربما كان محمد عبده أكثر حكمة وأقل تهورا واندفاعا من صديقه الأفغاني في تقدير عاقبة الأمور حسبما يراها.
فشلت الثورة العرابية وانحسر مدها الشعبي، لكن تعاليم الأفغاني لم تنكسر وظلت تفرز أجيالا متصلة من رواد الحركة الوطنية المصرية، من مصطفى كامل ومحمد فريد وحتى سعد زغلول. كان الأفغاني أول من صاغ مفاهيم وحدة الأمة الإسلامية، وفي القلب منها مصر لمعرفته بفضلها التاريخي وأهميتها الجغرافية في قلب أمتها. كانت أفكاره ملهمة، ابتداءً من وحدة وادي النيل، وامتداده شمالا مع بلاد الشام، وشرقا مع الجزيرة العربية، وغربا مع بلاد المغرب العربي، ووحدة بلاد الأفغان والفرس والهند والأتراك، ومشروع الجامعة الإسلامية الذي تحمس له الكواكبي ورشيد رضا وغيرهم من الإصلاحيين الإسلاميين.
وعلى مستوى الدولة والإصلاح الداخلي، كان الأفغاني الأكثر نضجا بدعوته إلى الحريات وإقامة الحياة النيابية والدستورية، وليس من منصف ينكر فضله في التأسيس لتيار إصلاحي إسلامي ثوري نجح على مدار النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والأول من القرن العشرين في تحرير الأوطان والدفاع عن المعتقدات الدينية ضد الهجمات الاستشراقية ومواجهة حركة التغريب، بإثبات فاعلية النظرية الإسلامية وقدرتها على تقديم نموذج حضاري، سواء الآن أو بعد قليل.
هذا الأثر القوي للأفغاني في صياغة الحركة الإسلامية، بصرف النظر عن تطوراتها العنيفة في النصف الثاني من القرن العشرين، كان من الطبيعي أن يجلب ذلك الهجوم الشرس الذي تعرض له الرجل في حياته، وحتى بعد وفاته، والذي أثار الكثير من الأقاويل حول شخصيته وأفكاره وأهدافه.
لم يسلم الرجل من العديد من الحملات التي تسعى للنيل من شخصيه ومكانته لدى جمهوره الواسع، ركز بعضها على نسج روايات وإطلاق صفات ترمي لاغتيال اسم الأفغاني وتاريخه عبر كتابات تأخذ ثوب البحث التاريخي أو المبحث العلمي. أطلق عليه مفكر مثل لويس عوض وصف “الإيراني الغامض” وساق آخرون تهما تنوعت من وصفه بأنه ماسوني يهودي، أو شيعي أفعاني، أو بهائي، إلى اتهامه بأنه عميل روسي يعمل لحساب القيصر، وإرهابي ضالع في العديد من محاولات اغتيال الخديوي اسماعيل.
رغم ذلك يظل الأفغاني ومسيرته الحافلة محط أنظار كثيرين ممن يقدرون دوره في التبشير ببعث جديد للحضارة العربية والإسلامية وإلهام تيار ثوري مستنير بلغ ذروته مع حركات التحرر الوطني بعد نصف قرن من وفاته.