رؤى

الإحيائية الإسلامية المعاصرة.. شاهد عيان (2)

كانت كلية الاقتصاد التي التحقت بها عام 1976من كليات القمة والصفوة لتخريج المتخصصين في العلوم السياسية والإحصاء والاقتصاد، وكانت “الجماعة الإسلامية” قد ظهرت في الجامعة تطويرا عن “الجماعة الدينية”.

وسمي الجيل الجديد المعبر عن الأحياء الإسلامي نفسه باسم “الجماعة الإسلامية” في باكستان، التي أسسها أبو الأعلى المودودي، دون أن يكونوا على علم وإحاطة بدلالة التعبير هناك ودلالته في مصر، فالجماعة الإسلامية الباكستانية نشأت مقاطعة للمجتمع الهندي نزوعا نحو بناء دولة إسلامية جديدة خالصة للمسلمين في باكستان، أما في مصر فليس هناك صراع على الهوية ولا صراع على القومية أو الوطنية بالمعني الحاد الذي عرفته الهند مضرجا بالدماء والأشلاء حين نزعت باكستان للانفصال.

أبو الأعلى المودودي

كانت الدولة تغض الطرف عن الصعود المتوالي للوجود الإسلامي في الجامعة وتراه أقرب لتحقيق سياساتها في التخلص من قوى اليسارفي الجامعة، التي كانت تمثل تحديا للنظام بسياساته الاقتصادية الجديدة وتحالفاته الإقليمية والدولية، ما اعتبرته انقلابا على سياسات الدولة الناصرية التي كانت أكثر تعبيرا عن الفقراء والعمال في مواجهة الرأسمالية الجديدة.

عالم الجماعات الإسلامية الجديد كان شبكة مفتوحة على بعضها، فالمساجد كمسجد الشيخ إبراهيم عزت تمثل ساحة مفتوحة للتواصل والتعارف والتشبيك، كأن هذا العالم الجديد قوة انفتحت بغير تخطيط أو توجيه أو تعليم كاف فانطلقت تعبر عن نفسها في كل اتجاه ومكان.

ظهر الإخوان المسلمون، وجماعة التكفير والهجرة، والدعوة السلفية، والتبليغ والدعوة، ونشطت جمعيات أنصار السنة،والجمعية الشرعية. كل من هذه الجماعات كان له طريقته في التفكير ونظام عمله الذي يتحرك به وسط إحيائية واسعة جدا لكنها جامحة وغير منظمة أو موجهة، تنتظر من يجمع شتاتها أو يتخذها مطية لتحقيق أغراضه.

في سياق هذه الشبكة وصلني كتاب “في ظلال القرآن” للأستاذ سيد قطب كاملا، كان قديما وورقه مصقول ولونه داكن، وكان من سبقت له ملكيته قد أخفاه طوال فترة المواجهة مع الناصرية ثم ظهر مع منتصف السبعينيات. كان مالكه قد وضع علامات على كل الآيات التي تشير إلى أن النظام السياسي لا يعبر عن الشريعة ولا عن الإسلام، وكان مع الكتاب كتب قديمة استخرجت من مخازنها للشيخ حسن البنا.

حسن البنا، سيد قطب

كنت صغيرا جدا لأقتحم عالم أفكار كبرى بهذا الشكل وبتلك الفجأة، كان الإخوان المسلمون قد قرروا أن يقتحموا هذا الصيد الجديد ويقدموا أنفسهم إليه باعتبارهم من حمل عبء الإسلام وأمانه الدعوة وضحوا وسجنوا وعذبوا، وفعلا استطاعوا أن يأخذوا القطاع الأكبر من هذا الشباب إليهم وأن يدخلوهم في جماعتهم ليمنحوها روحا جديدة وقد شارفت شمس الجماعة على المغيب وهلالها كاد يكون عرجونا قديما.

انتشر كالبرق وقتها مفهوم “الفرقة الناجية” واستدعت الإحيائية الإسلامية الجديدة حديث “ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة: السنة والجماعة”.

بدأت الخلافات القديمة تظهر من جديد وتبعث الحياة في الجدل الكلامي القديم بجميع أشكاله، وصرنا نسمع عن الخوارج، والجهمية، والمرجئة، والقدرية، والجبرية. وبدلا من أن تسير الإحيائية الجديدة نحو التدبر والتأمل في الواقع الذي تعيشه أمتها لتضع له الحلول، إذا بها تستسهل العودة للماضي القديم وتعيد بعثه من جديد.

لم نقرأ مشروعا واحدا للإحيائية الإسلامية عن المستقبل وكيفية التعامل معه،أوعن توسيع مصطلح الدين عبر الحديث عن الأصول والمصالح الكلية الجامعة العامة للأمة، وإنما رأينا اضطرابا وحركة قوية عفية بلا عقل ينظم ولا مركز للتفكير يهدي ولا حرث عميق في تربة تحتاج للتقليب والتجديد لكي تنتج زرعا يستغلظ فيستوي على سوقه يعجب الزراع ليغيظ به الكفار.

ظهرت حركات العنف بلا منهج واضح ولا صبر جميل ولا عقل كبير، وتركتها الحركات التي اتخذت الدعوة والسياسة والعمل الاجتماعي تضرب رأسها في الحائط عسى أن يكون ذلك سبيلا لبقائها واستمرارها هي.

أصبح التناقض بين تلك الجماعات سبيلا للمختلفين معها ليتلاعبوا به في سبيل إضعافهم، وبدلا من أن تصبح الإحيائية سبيلا للإحياء كما يشير اسمها، أصبحت طريقا للموت كما حدث في العشرية السوداء في الجزائر، ومواجهات التسعينيات في مصر وسوريا وغيرها. أصبح عالم الاقتحام والمواجهة وتغشي المغامرات بلا خطط أو تدبر هو سبيل تلك الإحيائية، فعمدت لتأسيس جديد لذاتها دون أمتها وبناء عالم خاص من تصميمها اختلطت فيها الأوهام بالأماني بالعواطف، وقطعت مع كل ماهو قائم باعتباره جاهليا وأن سبيلها لكي تبني عالما خالصا وتماميا هو أن تترك الأمة والشعب والناس في غيهم يضطربون، وأن تبني هي عالمها الجديد المتوهم باستعادة ماضي لا يمكن بعثه من جديد، فالإحياء هو بعث الحاضر نحو مستقبل أفضل،وليس بعث الماضي قفزا على الواقع وعدم الاكتراث بالمستقبل.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock