دار الكتب

المقاطعة التي ألهمت الحلم.. من روزا باركس إلى مارتن لوثر كينج (1 – 2)

“لم تكن سوى حركة مقاومة بسيطة اضطلعت بها امرأة جسور منذ أكثر من 60 عاما على متن حافلة، تلك التي أشعلت جذوة أحد أهم حملات الحقوق المدنية في التاريخ”؛ هكذا يصفها المؤرخ الأمريكي، جون كيرك، في كتابه Martin Luther King JR: Profiles in Power، الذي يبحث كيف أطلقت مقاطعة الحافلات في مدينة مونتجمري، عاصمة ولاية ألاباما، مسيرة مارتن لوثر كينج النضالية، وغيرت وجه تاريخ أمريكا الحديث.

ففي يوم 1 ديسمبر 1955، استقلت روزا باركس – كعادتها – الحافلة من وسط المدينة، لتبدأ رحلة العودة إلى منزلها، بعد أن أنهت يوم عمل شاق كخياطة في أحد المتاجر. ومع توافد الركاب بأعداد كبيرة، طلب السائق من الركاب السود إخلاء مقاعدهم للركاب البيض، وفقا لقوانين الفصل العنصري التي كان معمولا بها آنذاك. انصاع جميع الركاب السود باستثناء باركس؛ مما دفع بالسائق إلى استدعاء الشرطة، التي ألقت القبض عليها، وأودعتها سجن المدينة.

كان لهذه الحادثة تداعيات عظيمة الأثر؛ فقد أدت إلى مقاطعة امتدت على مدى 13 شهرا لجميع حافلات المدينة، في واحدة من أطول حملات الحشد الشعبي للمواطنين السود في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. وتحولت المقاطعة، التي ارتكزت على قاعدة النشاط المجتمعي برعاية كنسية، ودعمتها قيادات كهنوتية، إلى جذوة أشعلت فتيل حركة الحقوق المدنية على مدى العقد التالي، وطبعتها بطابعها السلمي.

إضافة إلى ذلك، ولد من رحم هذه المقاطعة عدد من رموز حركة الحقوق المدنية، على رأسهم مارتن لوثر كينج، الذي كان يبلغ من العمر حينها 26 عاما، فحولته من الخوف والتردد إلى الانضمام والمشاركة، ثم إلى قيادة الحراك السياسي من أجل إقرار الحقوق المدنية للمواطنين السود.

لم تكن هذه الحركة سابقة تاريخية. ففي أعقاب تمرير قوانين الفصل العنصري في المدن الجنوبية في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، نظم عدد من السكان السود، بمن فيهم سكان مدينة مونتجمري، سلسلة من المقاطعات ضد وسائل المواصلات العامة، لكنها لم تستمر طويلا. وفي عام 1953، قاطع السكان السود في مدينة باتون روج، بولاية لويزيانا، الحافلات لمدة أسبوع حتى اضطر السكان البيض إلى الموافقة على تعديل بعض الممارسات العنصرية القائمة.

لكن تبقى حالة باركس ذات طابع خاص. فقد وقعت في الفترة التي أعقبت الدعوى القضائية التي أقامتها “الرابطة الوطنية للنهوض بالملونين”National Association for the Advancement of Colored People، في عام 1954، وأصدرت المحكمة العليا الأمريكية بشأنها حكما تاريخيا في سياق القضاء على التمييز العنصري في البلاد.

ففي القضية المعروفة بقضية “براون ضد مجلس التعليم”، جرمت المحكمة الفصل العنصري في المدارس، وهو ما قوض شرعيته في سائر المؤسسات. على إثر ذلك، تحول ميزان  القوة في الصراع العنصري بدرجة كبيرة باتجاه السود. لكن الجنوبيين البيض كانوا عازمين على عدم الاستسلام، وتوعد كثير منهم بتدشين حملة مقاومة هائلة ضد إلغاء التمييز العنصري، مستخدمين فيها كل الوسائل القانونية وغير القانونية.

في هذا السياق، شهد منتصف عام 1955، حادثة قتل مروعة نفذتها مجموعة من المواطنين البيض في ولاية مسيسيبي ضد إيميت تيل، الطفل الأسود الذي لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره، بدعوى التجاوز في حق امرأة بيضاء. كانت هذه الحادثة مؤشرا على المناخ العنصري المشحون في أعقاب قضية براون، وتسببت في إثارة حالة من الغضب القومي العام.

أخذت قضية براون بزمام الولايات الجنوبية إلى حالة من الاستقطاب العرقي، وخلفت أجواء غير مسبوقة من التوتر والمشاحنة. ففي الوقت الذي تهيأت فيه للمواطنين السود أجواء مواتية للضغط من أجل إصلاح قوانين الفصل العنصري، لاحت نذر الخطر بقوة للمواطنين البيض، وجعلتهم أكثر توحشا في ممارساتهم العنصرية، وصارت المعادلة برمتها صفرية “إما نحن وإما هم”.

تزامنت مقاطعة حافلات مونتجمري مع هذه الأجواء الموتورة. وبرز شخصان من مجتمع السود في مونتجمري في قيادة هذه المقاطعة نحو تحقيق أهدافها، أحدهما إدجر دانيل نيكسون، الذي كان يعمل حمالا في القطارات، إلى جانب نشاطه البارز في العمل السياسي والاجتماعي، والآخر جو آن روبنسون، الأستاذة الجامعية، ورئيس المجلس السياسي للمرأة في مونتجمري.

اتفق كل من نيكسون وروبنسون على تنظيم مقاطعة للحافلات لمدة يوم واحد للاحتجاج على سجن باركس. وتولت روبنسون نشر فكرة المقاطعة بين أعضاء مجتمع السود في المدينة، بينما تولى نيكسون تنظيم لقاء حاشد للحصول على الدعم اللازم.

توجه نيكسون بطلب إلى مارتن لوثر كينج، القس في كنيسة معمدانية في جادة ديكيستر، للسماح للسود بعقد اجتماعهم في كنيسته. لم يكن قد مضى على التحاق كينج بالكنيسة سوى عام واحد، وكانت زوجته، كوريتا، قد أنجبت له طفلتهما الأولى قبل بضعة أشهر؛ وهو ما دفع بكينج – في بداية الأمر – بالنأي بنفسه وبأسرته عن خوض غمار هذا المعترك الدامي. إلا أن القس الأسود الشاب، رالف أبيرناثي، تدخل في الأمر، وأقنع كينج بضرورة تقديم المساعدة. وعندما عاود نيكسون الاتصال بكينج، أخبره الأخير بموافقته على استضافة الاجتماع.

كانت هذه هي البداية الحقيقية لولوج كينج غمار النضال من أجل إقرار الحقوق المدنية للسود، وسرعان ما دفعته عوامل كثيرة على الانتقال إلى الصفوف الأولى حتى غدا أشهر قادة الحركة في القرن الماضي. فعندما شرع القادة السود في مدينة مونتجمري في البحث عن قائد لـ “اتحاد تطوير مونتجمري” Montgomery Improvement Association  – وهي منظمة تأسست لتنظيم مقاطعة الحافلات بعد سجن باركس – وقع اختيارهم مباشرة على كينج، بعد أن تراجع عدد من المرشحين عن قبول المهمة خوفا من ردود الأفعال الانتقامية من قبل البيض المتحفزين. أما الآخرون ممن كانوا يرغبون في تولي هذه المهمة فقد واجهوا رفض القادة السود الذين لم يسرهم رؤية منافسيهم يتبوؤن هذه المكانة.

كان سن كينج الصغير، وروح الشباب التي دفعته إلى المغامرة، ووضعه كوافد جديد على المدينة أسبابا جوهرية في أن يصبح الاختيار الأمثل لهذه القيادة، وتحت ضغوط ترشيحه من قبل قادة العمل السياسي والاجتماعي داخل الكنيسة وخارجها، قبل كينج المهمة ليبدأ رحلة قيادة النضال ضد التمييز العنصري.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock