في الجزء الأول من مقالنا هذا، رأينا كيف نسف الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي أسطورة ابن عروس، فالرجل لم يكن شاعرًا ولم يكن مصريًا، نعم قال بعض الشعر ولكنه لم يقل ما نسبوه إليه على مدار أجيال وأجيال.
إذن من أين جاء المربع أو الرباعي، هذا الفن الشعري المنتشر في مصر خاصة صعيدها؟ يقرر الأبنودي بوضوح تام لا لبس فيه أن المربع أو الرباعي قد جاء من المغرب العربي فتلقفه الصعيدي ووجد في هذا القالب الشعري متنفسا للتعبير عن همومه.
ثم يتوقف الأبنودي طويلًا عند اسم “عبد الرحمن المجذوب” فيقول: ينسب الرباعي في شمال إفريقيا ـ قاطبة ـ الي الشيخ الزاهر ذي الكرامات والولي الصالح والشاعر الشعبي العظيم سيدي عبد الرحمن المجذوب، الاسم الأشهر بل ربما الوحيد في شمال افريقيا الذي يُنسب إليه (الرباعي) أو «المربع» كما نطلق عليه. لقد انتشرت مربعاته في الجزائر وتونس وليبيا بعد «المغرب» طبعا، بل راح البعض ينسج علي منوال مربعاته، ونسب إليه ما لم يقله حتي صار كل مربع يُذكر في تلك الأنحاء ينسب بصورة تلقائية الي شيخنا وشاعرنا العظيم (المجذوب).
ومن جهة اللقب فقد كان شاعرنا مجذوباً حقيقياً، ليس بالمعني السطحي والشعبي الساذج للانجذاب الذي لا يبتعد كثيراً عن الجنون أو غياب الإدراك أو البله والتخلف العقلي، ولكنه حالة من حالات الانجذاب نحو حب الله حتي لتبدو الحياة الدنيا من خلال وعيه عارية ويري الخلق علي حقيقتهم.
ولد «المجذوب» بقرية «طيط» سنة 959 هـ (1504م)، كان مأوى سلفه ـ كما يقول محمد الفاسي ـ برباط عين الفطر بساحل بلاد أزّمور، وهي تعرف أيضا بنيط ـ صارت طيط بعد ذلك – ثم رحل هو ووالده إلي نواحي مكناسة الزيتون، ثم سكن هو مكناسة.
وقد نسج المصريون على منوال المجذوب حتى ظهر بينهم مصري صعيدي قعّد قواعد المربع وجعله مصريًا من ألفه ليائه، ذلكم هو الشاعر علي النابي، وعنه يقول الأبنودي: سألت صديقي حسن دنقل، ابن عم شاعرنا أمل دنقل، هل سمعت برجل ـ شاعر مربعات ـ اسمه أحمد بن عروس؟ أجاب بالنفي ثم استطرد قائلا: سمعت اسمه في أثناء شجارك مع بعضهم، ولكن لن تجد فى صعيد مصر رجلا سمع بهذا الاسم أو ورد ذكره فى أمور المربع على الإطلاق. إذا كان ثمة أحد بزَّ في التربيع فهو على النابي، وهو من قفط ومازال أهله على قيد الحياة، ومنهم السيد أبو الحسن بن على الجزار النائب البرلماني المعروف.
كان على النابي ناظر زراعة مسئولا عن أمور الزراعة والفلاحين ومال الدولة من أبوطشت» شمال محافظة قنا حتى إسنا في جنوبها، وكان معظم كلامه بالرمز ومن خلال المربعات، وما أقوله معروف فى سائر محافظة قنا التى تعد من أطول محافظات الجمهورية، وكان تبعا لوظيفته يقطع مسافاتها وهو على صهوة جواده. ومن حكاياته أنه عندما ذهب إلى جزيرة مطيرة وجد فتاة كان لها باع طويل في المربع، وأغلب الظن أنه ذهب إلى هناك ليحاورها ويختبر قدراتها.
مرّ عليها فوجدها تزرع لبّ بطيخ، أي بذر بطيخ، فقال لها:
يا بت.. يا حمرة الخد
يام العيون الرياشى
عاوزين فرخ بطيخ ع الكد
نروي بيه العطاشى
والمعنى دفين تحت هذه الكلمات ويحمل أكبر من المعاني السطحية، يحمل إيحاءات جنسية مقصودة للاختبار، إلا أن ابنة جزيرة مطيرة فهمت ما رمى إليه الشاعر الفارس، فأجابته بنفس أسلوب المربعات:
يابو ركاب بيلمع كما البرق
ياللى كلامك ع الكل ماشي
جاها «طياب» إزيب من الشرق
قلب عروشها ما رماشي
قالت لنفسها: هذا فارس مهيب، فإذا آذيته بالقول فلربما يؤذيني، لذا بحثت في عقلها وكونت المربع بحنكة وتلقائية قائلة له إن البطيخ الأحمر الذى تبحث عنه أيها الرجل المهيب والحاكم الذي يلتزم الجميع بأوامره، زرعناه وإذا بريح سوداء عاتية أتت من الشرق، الذى قدم هو إلى الجزيرة منه، فقلبت عروش المقاتة فلم تثمر بطيخا أو غيره. لم ترد أن تقول له: خل عندك نظر فأنا ما زلت أزرع اللب فمن أين آتي لك بالبطيخ؟ وحين عرفت أن مقصده البطيخ الأحمر المشقوق الذى يريد أن يطفئ به رغبته، وصفته بأنه كالريح الأزيب المترب الحار الذي يقتل بكارة البنات أو يقلب عروشها فلا يبقى بطيخا أو حياة لنبات.
وربما هذه هي القصة التي نسجت على أساسها أسطورة ابن عروس، أوقع الجميع في الخلط والخطأ التشابه، البعيد نوعا ما، بين قصة عناصرها فارس وفتاة يقظة تجيد فن القول.
وكان علي النابي يمر يوما معتليا ظهر حصانه، فوجد جماعة يلعبون اللعبة الشعبية الصعيدية، السيجة (شطرنج الفقراء)، ووجدهم متوقفين عن اللعب أمام معضلة عجزوا عن حلها، وكان بينهم صبى صغير فإذا به يمد يده وينقل «كلبا» فيحل المشكلة بكل بساطة، فقال النابي من فوق حصانه:
فيه ناس كتيرة بهمَّة
والتّبن لُابْيَضْ.. كَفاها
عيّل صغيّر.. بهمّة
عشرين عِمَّة.. كَفاها
والمعنى: أن كثيرا من الناس كالبهائم لا تستحق الخبز الذى تأكله، ويكفيها أن تأكل التبن الأبيض، وها هو صبي صغير كفى عشرين عمة على وجهها فى التراب. إذا: “بهمة” الأولى تعني بهائم، و”بهمة” الثانية تعني ذو همة. و”كفاها” الأولى بمعنى يكفيها، و”كفاها” الثانية أي قلبها على التراب.
ومن مربعات النابي أيضا:
ومن على الدنيا عاتَبْها
ومين جاب عليها سبايت
ياما ناس كان مرمر عتبها
دِلْوك ساكنة في السبايت
والمعنى ـ مع تأكيد تجانس القوافى ـ من استطاع أن يعاتب الدنيا ويقدمها للمحاكمة ويقدم اثباتاته على ما يفعل بنا نحن البشر، فقد كان هناك أناس عتب بيتها من المرمر والقت بهم الدنيا إلى الحضيض، ويعيشون الآن في أخصاص البوص.
وهكذا تمتع المربع بقوافيه ـ أو قافيتيه ـ دون حرج أو ثلم فعاتبها غير عتبها، و”سبايت” بمعنى إثباتات تغاير تماما ف المعنى «سبايت البوص»، إنه نموذج للمربع المتكامل صحيح البدن والذى لا عيب فيه.
ويقولون إن على النابي كان مارا على أطراف القرى فرأى فتاة بدوية نادرة الجمال فاقترب بحصانه منها قائلا:
جينالك يا حلوة جينالك وتعبت معانا الهجينة
عايزين غدا من غير نار ولا تتعبيلهوش في عجينة
فهمت الفتاة المقصد الخفي لعلي النابي، ذلك الغداء الذى بلا نار ولا عجينة وتلك الهجينة التي تعبت معه، وأنه يطلب منها مالا يمكن أن تعطيه، فأجابته:
إن كان ع الغدا نغدوك
البيض والسمن سايح
أما الغدا اللي من غير نار
يجيب لأهله الفضايح
ومادمنا قد انزلقنا إلى على النابي ومربعات منسوبة إليه، إن حقا أو تلفيقا، فإننا نؤكد أن هذه الشخصية هي شخصية حقيقية، وليست من اختراع البعض كشخصية المصري ابن عروس، فأهله ونسله مازالوا موجودون ولهم أماكنهم المحددة التى يمكن لقاءهم فيها ومعرفة المزيد عن هذا الفارس الشاعر.
هكذا سوف تتداخل الأقاصيص مشفوعة بالمربعات ولن تعرف صدقها من كذبها وقائليها من منتحليها على الاطلاق، فأهلنا يؤكدون وكأنهم رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ولا يمكن التشكيك فيما يؤمنون به ويتخذونه زادا ويستشهدون به فى كل حين.
ثم يختم شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي بحثه الشائق بقوله:
أما المربعات الحقيقية المستقرة بين الناس والتي هي عصارة التجربة الانسانية ومكابدات الإنسان الضعيف أمام سطوة الحياة وكفها العريضة الباطشة فلا مؤلف لها، تنتقل مع السنين يتلقفها جيل بالوراثة ليورثها للقادمين.