رؤى

الإحيائية الإسلامية المعاصرة.. شاهد عيان (5)

بعد هزيمة 1967 نُظر إلي المشروع القومي الذي كان يقوده ناصر أنه قد فشل، وربما شعر ناصر نفسه أن التيار الماركسي قد تجاوز الحد فيما اعتبر قضايا حساسة تمس الدين الإسلامي.

ومع تولي السادات السلطة نشطت حركة نشر واسعة للكتب السلفية، كانت معظم تلك الكتب لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، كما شملت كتبا لأبناء محمد بن عبد الوهاب، مثل كتاب “فتح المجيد شرح كتاب التوحيد”. قام علي نشر تلك الكتب ورعايتها محمد حامد الفقي(1892-1959) وهو شيخ تعلم بالأزهر وحصل على العالمية وكان له علاقة قوية برجال الأزهر كالشيخ عبد المجيد سليم (1882-1954) والشيخ محمود شلتوت (1893-1963)  وكان واعيا بأن اقتحام عالم السياسة يضر بمقام الدعوة.

الشيخ عبد المجيد سليم والشيخ شلتوت

أسس الرجل جماعة أنصار السنة عام 1926، وأصدر مجلة “الهدي النبوي” عام 1936، وكان يطلق على الإخوان المسلمين وصف “الخوان المسلمين”، واتفق مع المحدث محمد ناصر الدين الألباني في أن اقتحام السياسة من جماعة الإخوان سيوردها المهالك.

ونشطت في النشر أيضا المكتبة السلفية التي كان يقوم عليها ويديرها قصي محب الدين الخطيب، وأذكر أنني عندما كنت طالبا في السنة الثانية بكلية الاقتصاد وقعت على كتاب “اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم”، ولم أكن أفهم كثيرا من مسائله التي يذكرها والتي تتصل بعادات الناس وقت تأليف الكتاب، كعاداتهم في اللباس والقيافة وغيرها من الأمور التي اعتبرها مؤلفها ضرورية ودينية حتي تثبت إيمانك بمخالفة اليهود والنصارى وغير المسلمين في اللباس والهيئة والكثير من العادات والتقاليد. كان الكتاب ضخما وبدا غريبا علي في ذلك الوقت المبكر من حياتي وأربكني في علاقتي بالمحيط الذي أعيش فيه، والذي يختلف تماما عن بيئة وعالم القرن السابع والثامن الهجري الذي عاش فيهما مؤلف الكتاب.

أذكر أيضا أنني قرأت كتاب “الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الإثنى عشرية” لمحب الدين الخطيب (1886-1969)  وُكّون لدي وعيا بمخالفة ليس فقط غير المسلمين وإنما أيضا غير السنة، وهنا بدأ البعد المذهبي يتعمق في نفوس أبناء الإحيائية الإسلامية الجديدة، كما تعمق من قبل البعد المفارق للمشاركين معنا في الحياة من غير المسلمين.

التيارات السلفية ذات الطابع غير السياسي كانت وثيقة الصلة بالتيارات السلفية السعودية التي كان جوهرها الدعوة إلى الوهابية والعمل على نشرها خارج حدود المملكة. سوف نلحظ أن محمد حامد الفقي كان يدرس في الحرم المكي وأن بعض نشرياته كانت بتحقيق عبد العزيز بن باز( 1910-1999)  كما نلحظ العلاقة بين المكتبة السلفية والخط الوهابي، وكان من تلامذته عبد الرحمن الوكيل ( 1913-1979)  ومحمد خليل هراس ( 1916- 1975)، وجميع هؤلاء ذهبوا للعمل في السعودية إما بجامعتها أو ضمن هيئة مفتيها كما هو الحال مع عبد الرزاق عفيفي.

الشيخ محمد حامد الفقي

وبينما كانت الإحيائية الإسلامية المعاصرة في أوج صعودها في النصف الثاني من سبعينيات القرن الفائت كانت مطمعا لكل طامع،  تلك القوة الكبيرة التي مثلها شباب وفتيات لا يعرفون تاريخا للتيارات الفكرية القديمة ولا تنظيماتها ولا التنافس بين مدارسها، فيما تسعى دول للسطو على تلك الإحيائية، منها السعودية.

تدفقت على أنصار السنة كتب الوهابية ذات المنزع العقدي المفاصل للمجتمعات، والذي يدعو لما أطلق عليه “الولاء والبراء” وبين ثناياه نزوع لوصم المخالفين بعدم تحقيق التوحيد الصحيح، ما يفتح الباب واسعا لإخراجهم من حظيرة الإسلام. قمت أنا شخصيا بالذهاب إلي مقر أنصار السنة في عام 1977 وحملت عربة كبيرة نصف نقل بالكتب التي تُوزع مجانا، وكان منها شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية بتحقيق محمد خليل هراس، وكتاب التوحيد الذي هو حق الله علي العبيد لمحمد بن عبد الوهاب، ورسالة بعنوان “مقدمة ابن أبي زيد القيرواني”.

الشيخ محمد بن عبد الوهاب

كانت هناك أيضا مؤلفات لمحمد بن الوهاب ( 1703-1779) وأبنائه، أذكر منها كتاب “الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة” لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وقد كُتب في الأسطر الأولى منها: “هذه فصول وكلمات نقلتها من كلام العلماء المجتهدين في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفرة للمسلم المخرجة له من الدين، وأن تلفظه بالشهادتين وانتسابه للإسلام وعمله ببعض شرائع الدين لا يمنع من تكفيره وقتله وإلحاقه بالمرتدين”، ما يعني السطو علي الدين واستخدامه كأداة لتكفير المسلمين ووصمهم بحكم الكفر والردة.

ورغم أن التيار السلفي وقف ضد تيار التكفير والخوارج الذي قاده شكري مصطفى إلا أنه هجم علي الصوفية هجوما شديدا، وكان عبد الرحمن الوكيل من أنصار السنة هو أكثر من كتب في هذا، وله كتاب مشهور بعنوان “هذه هي الصوفية “.

وهكذا أصبحت الإحيائية الإسلامية المعاصرة نهبا لتيارات فكرية تقسم المجتمعات على أسس عقدية ومذهبية وسلوكية وحتي فقهية، ما جعلها نهبا للتمزق والتناحر والتنافس بين تياراتها وحرم الأمة الإسلامية من خير هذه الإحيائية ودفعها لمسالك العزلة والوقوف من الناس موقف الحاكم عليهم والمستعلي علي سلوكهم وطرائقهم في التدين، ومن ثم حرموا بركة العوام الذين يمثلون في الحقيقة البحر الزاخر الواسع الفطري الذي من يخسره فقد خسر خسرانا كبيرا.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock