يجمع العديد من المفكرين على أن الحياة العقلية للشرقيين عامة أوثق اتصالاً بحياتهم الدينية منها بالتفكير الفلسفي الخالص. فالأخير امتزج بالتفكير الديني في شتى العصور الإنسانية حتى يمكن القول أن كل محاولة تهدف إلى الفصل بينهما تنتهي لا محالة إلى العجز عن فهم كليهما.
الدين الإسلامي وإن كان واحداً في “نصه” إلا أن الاجتهادات والتأويلات حوله تعددت وتشعبت، وإذا ما ترجم هذا الفهم المتعدد في سلوك بشري أضحى لدينا نسيج عريض به ألوان متقاربة كبرازخ رمادية بين طرفين متناقضين، الأول “ثوري خروجي” والآخر “صوفي انكفائي”. الدين حتى في جانبه التعبدي البحت يشكل في الإنسان مجموعة من القيم التي يتشربها عقله ونفسه وتصبح جزءاً من ذاته، وتصيغ إدراكه وتصوراته عن الواقع الاجتماعي بشتى مكوناته، وعلى هذا الأساس يصبح الباب مفتوحا على مصراعيه بين ما هو ديني وما هو سياسي.
تشترك الظاهرة السياسية والظاهرة الدينية في عدة سمات منها الغموض والتعدد والارتباط بالظواهر الأخرى والحركية والديناميكية، وهما تتكونان من عناصر ومقومات مادية ومعنوية ونظامية أو هيكلية، وبينهما ارتباط وثيق، فالدين يمد الإنسان بالقيم الخلقية التي هي قبل كل شيء قيم اجتماعية، ويلعب دورا ووظيفة أساسية في عملية الضبط الاجتماعي من خلال الطقوس والعبادات ووضع الخطوط الفاصلة بين الحلال والحرام كما تلعب المؤسسة الدينية دوراً حيوياً كقناة للحراك الاجتماعي في المجتمعات التي تعطي مكانة خاصة للثقافة الدينية.
وقد يكون التدين لدى بعض الناس رد فعل لواقع اجتماعي مرفوض، وهذا هو التدين العصابي، الذي ينشأ لدى الإنسان كميكانزم دفاعي ضد قهر السلطة والإحباط والشعور بالخوف والقلق والعجز عن مواجهة متطلبات وضغوط الواقع. فالإنسان المقهور العاجز عن المواجهة ينسحب من ميدان الحياة ويخلد للراحة ملتحفا بالدين الذي يمده بالأمن، وينحت له دوراً اجتماعياً، بدلا من أن يبقى طيلة حياته مهمشاً ضائعاً، وسواء كانت هذه العلاقة هي علاقة استيعاب أم علاقة صدام فهي علاقة ثابتة كأحد عناصر الحركة الاجتماعية . فلقد وجدت هذه العلاقة في تصور من اثنين: إما تعانق بينهما يرتفع إلى حد احتواء إحداهما للأخرى، وإما صراع يجعل كل منها تقف من الأخرى موقف التضاد والمعارضة، بل والتربص الذي قد يصل إلى حد السعي للإفناء والاستئصال، وكلا النموذجين في حقيقة الأمر تعبير عن علاقة الاهتمام وتأكيد لأزلية الظاهرة الدينية حتى لو فهمت على أنها خلفية لتبرير الفساد السياسي والاستغلال الطبقي مثلما زعم كارل ماركس، والذي لم يستطع أن يغفل دور الدين كإيديولوجيا في عملية الضبط الاجتماعي .
إن معنى الظاهرة الدينية ينبع من مفهوم الدعوة ويرتبط ويتحدد بفكرة الالتزام المعنوي، وهذا الأمر يرتبط في الحقيقة بجوهر الظاهرة السياسية، فإذا كانت الظاهرة السياسية هي السلطة في أوسع معانيها وهي تعنى الشعور بالالتزام إزاء الحاكم ولو من منطلق الإكراه المادي والقسر العضوي أو هي قواعد تنظيم للممارسة من جانب والخضوع وإرادة الاحتواء من جانب آخر، فالدين في جوهره يدور حول استعداد الفرد وتقبله طواعية لأن يقدم لله سبحانه وتعالى مظاهر الخضوع والاحترام.
وهكذا نجد أن الدين في جزء منه يبدو تنظيما لعلاقة غيبية على أساس الالتزام المعنوي، والسياسة في شق منها تعد تنظيما لعلاقة مدنية من منطلق التعامل المادي، ورغم الخلاف فهناك ارتباط بينهما نظراً لوجود التنظيم في كلا الجانبين والالتزام في كلا التطبيقين، وهذا فرض علاقة ثابتة تؤكدها جميع الحضارات بلا استثناء، فالدين منطلق للتأثير في الوجود السياسي، كما أن السلطة تسعى لتجعل من الدين منطلقاً لتحقيق التماسك بالولاء .
وعلى مستوى التطبيق الحياتي نجد أن الدين لعب دوراً بارزاً كمحرك لعملية التغيير الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي عن طريق الحركات الدينية المسيسة في نفس الوقت الذي يرى فيه البعض أن تفسير الدين كان له بصمة واضحة في عملية التمويه الإيديولوجي والوعي الزائف والهروب من الواقع من خلال تسويغه للتمايز الطبقي وإضفاء الشرعية على نظم مستبدة. وهذان النقيضان لا يرجعان إلى الدين في أصله المنزل ونصه المقدس ولكن ينبعان من تفسير الدين من قبل الأفراد والجماعات حيث يتماهى النص في شبكة اجتماعية معقدة مشبعة بالمصالح والأهواء والظروف.
وما يهمنا هنا ليس البحث عن جذور الصواب والخطأ في هذا التقييم ولكن توضيح العلاقة الوطيدة بين الدين والسياسة، فالموقفان وإن اختلفا حول سلبية أو إيجابية الدين في المجال الاجتماعي إلا أنهما يثبتان بما لا يدع مجالاً للشك مدى الارتباط بين ما هو ديني وما هو سياسي. أما عن العلاقة بين المؤسسة الدينية وشرعية النظام السياسي فهي تختلف طبقاً لنوعية المؤسسة ومدى تنوع نشاطها، فالمؤسسات الرسمية تحض على ترسيخ القيم والاتجاهات السياسية التي يدعو إليها النظام بينما تسعى المؤسسات الدينية غير الرسمية إلى خلق قيم جديدة وطرح قيم بديلة تناقض تلك التي يتبناها النظام السياسي مما يؤثر على استقراره واستمراره .
ونظراً لإدراك النخبة الحاكمة لأهمية دور المؤسسة الدينية في التنشئة السياسية فقد لجأت إلى توظيف دور العبادة (المساجد والكنائس والمعابد) كأماكن للتربية السياسية للأفراد بهدف تنشئتهم على الطريقة التي تتفق مع مصلحة النظم الحاكمة، وقطع الطريق أمام المعارضة قبل أن تستغل أو تستقطب هذه المؤسسات أو تضيع فرصتها في توظيفها بقدر الإمكان.
ومن أجل منع استغلال الدين على هذا النحو، أو جعله مطية لتبرير السلوك السياسي، أو تحويله إلى مجرد أيديولوجيا، بما يجرح جلاله وقدسيته، فإن الأفضل أن نفكر في تديين السياسة لا تسييس الدين، أي منح السياسة إطارا أخلاقيا ممكنا، على غرار ما ذهب إليه فلاسفة سياسيون مسلمون أقدمون، أو ما فعله كانط في الفلسفة السياسية الغربية، دون استغلال الدين في الممارسة السياسية، ما يضر بجلاله وقدسيته، ويشكل تلاعبا بعقول الجماهير المصرية المتدينة بطبعها.
إن تديين السياسة يبدو مقبولا، إذ إن وضع إطار قيمي أخلاقي، ينبع من الدين أو حتى من التقاليد والأعراف الحميدة السائدة، من أجل تهذيب حركة السياسة وإبعادها عن التوسل بالتلاعب والمخاتلة والخديعة، كان، ولا يزال، مطلبا، تجاهد الفلسفة السياسية في سبيل بلوغه. أما تسييس الدين فيجب رفضه على الإطلاق، فإضفاء صفة الدين على ممارسات سياسية، يضر بالدين والسياسة معا، لأنه ينتج في نهاية المطاف ألوانا سياسية متعددة من التلاعب الملفوظ بمصالح الناس وعقولهم، وتأويلات دينية ملفقة تضر بفقه الواقع، لأنها تقدم مصالح فئة بعينها على أنها رؤية الدين الوحيدة التي تنطوي على صواب مطلق.
لكن الأهم هو أن تخضع السياسة للعقل إلى جانب خضوعها للأخلاق، لأن البعض يتعامل أحيانا مع الاخلاق، بما فيها المستمدة من الدين على أنها مسألة نسبية.