مدونة أصوات

مدام مهجة

عادة ما تصدنا عيون الآخرين ونحن نحدثهم عن التفرس في نظراتهم وتقاسيم وجوههم وحركات شفاههم والتأمل في كل ذلك. عادة ما ننظر للآخر الناظر لنا بعين زائغة “ماسحة” سريعة وغير متفحصة خجلا من عيونه التي تنظرنا في نفس اللحظة. أما مع مدام مهجة على شباك مخالفات الملاكي فأنت في حل كامل من هذا التحرج الفطري. فمدام مهجة- التي لا أدري ما النصيب الذي حصلته من اسمها إن كانت قد حصلت منه شيئا على الإطلاق- تسمو فوق النظر لأمثالي وأمثالك. السيدة الأربعينية تضن بنور عينيها من أن يسقط على أشباهنا. ولذلك فبعد معاناة الوصول لمواجهة طلتها البهية على الشباك، تعرف بخبرة التجربة والخطأ أن الحديث معها لا يستلزم بالضرورة أن ترفع سيادتها عينا للنظر إليك. فهي تجيب على كل خمسة أسئلة مكررة إما بإيماءة.. أو بكلمة مقتضبة..أو بالنظر لزميلتها على الشباك المجاور وإطلاق جملة استنكارية قد تفهمها وقد تعجز عن ذلك يا قليل الفهم! فمثلا هي تستنكف أن ترد سؤالا عن الناقص في أوراقك. وتستعلي أن تنظر لك وتريك عيونها. وتستعيض عن ذلك بمناداة زميلة قريبة بجملة مثل: شكله صباح مالوش ملامح يا هناء! وعليك أن تفهم ساعتها أن سؤالك متجاوز ولا محل له..وتكراره قد يوردك موارد الهلاك!

الجميل في التجربة كما أخبرتك هو فرصة متابعة إنسان لفترة معقولة بلا أي إحراج..لأن عيونه لا تزعجك..لأنه لا ينظر لك مطلقا. أحاول التحلي بالصبر الجميل الذي يقيني شر العصبية والمواجهة مع موظف حكومي في أوج سلطته وجلوسه على قمة منحنى الحياة. نعم..هذه الساعات التي تجلسها مهجة على هذا الكرسي الخشبي الهزيل هي ساعات تسيدها للدنيا الظالمة. فقبل هذه السويعات وبعدها تنضم لقطيع المطحونين عديمي الحيثية. قطيع الأشباه الواقفين في طوابير الخبز وطوابير الفول وطوابير المواصلات.. المناكفين لبعضهم البعض في الأسواق وفي الميكروباصات وعبر النوافذ والبلكونات. أما هذا الكرسي، على ضآلته، فهو الفسحة القصيرة التي تهبها لها الحياة لتشعر بمكانتها وتميزها عن بقية الخلق.

أقف لأتابع يديها اللتين تتحركان ببطء ووهن فوق الأوراق. الأظافر تحمل عبء طلاء أحمر داكن اختفى معظمه مع صابون المواعين..فأظهر بؤسا وتشققا واصفرارا لا تخفى أسبابه. وتحت الأظافر البائسة تظهر بطون الأصابع الجافة التي تزينها آثار الأقلام والأحبار. وقد أزرق لونها من أثر تنظيف الباذنجان ربما. أما الكف النسائي الصغير فهزيل وتزينه العروق الخضراء النافرة التي تتفرع فوقها رسمة فرع مزهر مدموغة بحناء سوداء فاحمة تشي بحضورها مناسبة سعيدة في ماض قريب.

تتزين مهجة بالكثير من الخواتم. تنثرها بين أصابعها كيفما اتفق..منها الفضي والمذهب وذو الفصوص. وترتدي قلادة ذهبية مربعة ومسطحة تحمل صورة زوجها على ما أظن. ألاحظ طريقة ارتدائها لحجابها. أظنها حريصة على إظهار جزء من غرتها المصبوغة بلون يتأرجح بين الأصفر والبرتقالي. أخمن أنها اعتادت استخدام الحناء الطبيعية حتى وسوست لها إحداهن بأن الشقار أجمل كما يحدث للكثيرات. ثم هي تعقد طرفي الحجاب خلف رأسها فيظهر جزء لا بأس به من رقبتها وأعلى صدرها فوق حواف ما تلبسه. أدقق في بشرة وجهها الجافة المتعبة وفي حاجبين متروكين بلا تهذيب..ثم في بقايا قهوة على شفتيها الرقيقتين المزمومتين في حزم لا مبرر له في تلك اللحظة..وأسرح فيما ينتظرها بعد الخروج من هذا المبنى. أتخيل زوجا عاديا وثلاثة من المراهقين ينتظرون في ضجر تحضيرها للغداء. ثم أتخيل انفضاضهم ليتركوها غارقة فيما تبقى من أعباء منزلية لا تنتهي. وأتخيل أبا مريضا يتصل بها شاكيا من زوجة أبيها. وأتخيل حديثها مع أختها على الهاتف، وسبابهما لزوجة الأب المجرمة، واتفاقهما على ضرورة “تربيتها”! وأتخيل أننا في منتصف الشهر..وأنها تخرج حقيبتها لعد ما تبقى معها من مال..وأنها تنظر لما وجدته بأسى وتعاود وضعه في مكانه. وتفكر بأنها ستفرج ككل مرة من حيث لم تكن تتوقع أبدا..

أتخيل تفاصيل كثيرة تجعلني أرق لمهجة وأعذرها. وأقول لنفسي لو أنني مكانها لما نظرت لأحد. الموضوع ليس شخصيا ضدي أو ضد أحد. البؤس يملأ قلبها الحزين فيطغى على سلوكها بلا قصد. يا الله! لو كلنا يملك قلبي المرهف المراعي المتعاطف…فيشعر بغيره و”يتخيل” ظروفهم..ويرق لهم..ولا يقيم عليهم الأحكام الجائرة المتسرعة! ياااه! لكانت الأرض جنة! أغرق في رهافتي وفرحتي بنفسي حتى تفيقني نظرة شذر تلقيها علي بلا مقدمات…فأضطرب لوهلة..لأجدها تلقي بضحكة طويلة وعالية لشخص يأتي من خلفي ويناولها قطعة بسبوسة من علبة في يده..فتأكلها وسط ابتسامة طويلة ورائقة مع جملة من قبيل: شكرا يا جميل.. أيوة كدة..عشان أنسى حواوشي الكلاب بتاع امبارح!

تضحكين يا عزيزتي إذن! وتبتسمين! وتعرفين كيف تنظرين للبشر! الموضوع ليس بؤسا إذن يا مهجتي المقطبة. الموضوع موجه ضدي أنا وأمثالي! نحن إذن البؤساء المحرومون مستحقو الشفقة والتعاطف!

تنمرت بعدها ونسيت كل تخيلاتي وتحفزت للخناق مع أول جملة لن ترد عليها بنت الإيه دي!!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock