في عام 2001 عرض التلفزيون المصري مسلسلا اجتماعيا بعنوان “عائلة الحاج متولي” أثار جدلا واسعا في الشارع المصري في حينه لتناوله واحدة من أكثر القضايا الاجتماعية حساسية، وهي قضية تعدد الزوجات. قدم المسلسل شخصية الحاج متولي (نور الشريف) تاجر الأقمشة الثري الذي يجمع بين أربع زوجات يعشن معه في منزل واحد مع أبنائه وبناته من كل منهن.
حظي المسلسل باهتمام واسع من قبل الجمهور، فيما أثار انقساما في المجتمع بين مؤيد ومعارض لكيفية معالجة العمل لهذه القضية الشائكة، وفي حين رحب داعية إسلامي معروف بالمسلسل واعتبره يمثل انتصارا للأصالة على التقليد، لقي في الوقت نفسه انتقادات واسعة من كاتبات وناشطات نسويات مثل الكاتبة فريدة النقاش التي انتقدت طريقة تصوير المسلسل للمرأة المصرية وما اعتبرته ترويجا للوهم في عقول الشباب بإمكانية جني ثروة طائلة عبر الزواج من الأرامل.
وفي عام 2006، كان جمهور آخر هو الجمهور الأمريكي على موعد مع عمل درامي لا يقل جرأة أو إثارة للجدل عن الحاج متولي، ويتناول القضية نفسها (تعدد الزوجات)، وهو المسلسل التليفزيوني “الحب الكبير” Big Love. المسلسل تناول القضية في أجواء أكثر حساسية من المجتمع المصري، فتعدد الزوجات في الولايات المتحدة محرم قانونيا ودينيا على حد سواء.
قدم المسلسل حالة نادرة هي أسرة بيل هنريكسون (الممثل الأمريكي بيل باكستون) الذي يدير محلا للأجهزة والأدوات المنزلية، ويعيش حياة مستقرة مع زوجته باربرا (الممثلة المخضرمة جين تريبلهورن) وأبنائهما، إلا أن ما لا يعرفه الجميع عن أسرة بيل هو أنه ينتمي إلى عقيدة دينية غامضة، لم يفصح المسلسل عنها أبدا، تبيح له تعدد الزوجات، وأنه متزوج أيضا من جارتيه نيكوليت (كلوي سيفيني) ومارجين(الممثلة الشابة جينيفر جودوين).
يأخذنا المسلسل إلى حيث يعيش بيل مع 3 زوجات مختلفات في السن والشخصية والطباع إضافة إلى سبعة أبناء تتفاوت أعمارهم من المراهقة كما في حالتي سارة (الممثلة الشابة أماندا سايفريد) وبين (الكندي دوجلاس سميث) اللذين يمران بمرحلة النضج والبلوغ مرورا بالتوأمين الصغيرين واين، وريموند، والصغيرة تانسي، وصولا إلى أهارون وليستر ونيل، أبناء بيل من الزوجة الثالثة مارجين.
المسلسل، وإن لم يصرح باسم الكنيسة التي يتبعها بيل والتي تبيح ما لا تبيحه أي كنيسة أخرى في الولايات المتحدة من حصول الرجل على أكثر من زوجة، إلا أنه يلمح من وقت لآخر إلى الكنيسة المورمونية التي كانت تبيح تعدد الزوجات حتى العام 1890 حين أصدرت قرارا بتحريمه واعتبار من يمارسه خارجا عن الكنيسة. وبدلا من التصريح بذلك، يطرح المسلسل ديانة متخيلة يؤمن بها بيل ويمارس شعائرها مع أسرته، خاصة وأن والد بيل كان أحد مؤسسيها.
وعلى العكس من الحاج متولي، لا يستطيع بيل أن يجاهر بزيجاته المتعددة حتى لا يقع مع أسرته تحت طائلة القانون، ويخفي الأمر عن الجميع باستثناء صديقه وشريكه في العمل جويل، فيما تتظاهر زوجاته بأنهن جيران لا أكثر حتى لا يثيروا انتباه أحد إلى لقاءاتهم اليومية في بيت إحداهن. ويفرد المسلسل مساحة خاصة في كل حلقة لمائدة العشاء التي يلتف حولها كافة أفراد الأسرة من بيل إلى زوجاته الثلاثة إلى الأبناء السبعة جميعا، ويتبادلون خلالها الحديث حول ما عايشه كل منهم من أحداث على مدار يوم كامل، سواء في العمل أو في المنزل.
الطريف حقا، أن المشاهد العربي سيلاحظ على الفور أوجه التشابه بين الحاج متولي ونظيره الأمريكي بيل من حيث نمط الحياة التي يحياها كلاهما في ظل تعدد الزوجات والتي يعرضها المسلسل بشكل كوميدي أحيانا، حياة الزوجات تتقاطع وتتداخل بشكل غريب، ثلاث زوجات يحببن نفس الرجل، وهن وإن تنوعت واختلفت شخصياتهن، إلا أنهن يحرصن على إبعاد خلافاتهن عن بيل وفي بعض الأحيان إخفائها تماما عنه.
وعلى طريقة “الليلة يا عمدة” التي عودتنا عليها السينما المصرية، كما في رائعة “الزوجة الثانية” لصلاح أبو سيف، يواجه بيل صعوبة في تحديد أي بيت يبيت فيه نظرا لتقسيمه أيام الأسبوع بين زوجاته الثلاث، في إحدى الحلقات على سبيل المثال، يذهب بيل إلى منزل زوجته الثالثة مارجين لتفاجئه بالقول “إنها ليلة نيكول” وحين يذهب إلى الزوجة الثانية تبادره “بدلت ليلتي مع باربرا” فيعود بيل إلى منزل الزوجة الأولى ليجد طفلته نائمة بجوارها، وينتهي به الحال إلى النوم على الأريكة وحده.
كما يعرض المسلسل لطبيعة الأبناء الذين ينشؤون في ظل تعدد الزوجات، فالإبنة سارة المراهقة تواجه مشكلة نفسية عميقة في القدرة على التكيف مع حقيقة أن أباها متزوج من نساء أخريات غير والدتها، وهي وإن أطلعت صديقتها المقربة على حقيقة أسرتها، إلا أنها تؤكد عليها ألا تخبر أحدا أبدا عن هذه الحقيقة، أو كما تخبر صديقتها:”بالنسبة لك وللعالم بأسره، فإن لي أبا واحدا وأما واحدة فقط”، لتستمر حياة سارة متأرجحة بين كتمان سر أسرتها والرغبة في البوح به.
والحال كذلك أيضا بالنسبة للابن بين الذي يعاني من اضطرابات نفسية مع بلوغه سن المراهقة، لعل أبرزها تساؤلاته المستمرة عن كيف يدير علاقته مع الجنس الأخر، ولعل ما يزيد هذا السؤال إلحاحا في ذهن بين هو نشأته في بيت به ثلاث زوجات لأبيه، فهو لا يشعر بالراحة حين تعرض عليه نيكوليت أن تغسل له ثيابه، كما يلوم نفسه حين ينظر بإعجاب إلى مارجين، زوجة أبيه الثالثة التي تقاربه في السن.
وبشكل عام، يمكن القول إن الميزة الأساسية لعمل درامي مثل “الحب الكبير” هو أنه يظهر بشكل واضح أن ظاهرة تعدد الزوجات ليست قاصرة على ثقافة بعينها أو ديانة بعينها كما يحاول البعض أن يصور، كما أن المسلسل لا يظهر من يمارس هذا الأمر باعتبارهم شخصيات غير سوية كما درجت أعمال سابقة، بل كنماذج إنسانية يمكن للمشاهد أن يتعاطف معها ويتوحد مع مشاعرها. ويسعى المسلسل لإيصال رسالة مفادها أن تعدد الزوجات ليس ظاهرة قدرية ولا ظاهرة شريرة، بل ظاهرة اجتماعية لها أسبابها التي يجب التعامل معها والوقاية منها.
موضوع رائع يا استاذ عمرو