الحضور كثيف على غير العادة، ربما بدافع الفضول لرؤية أشخاص ينتمون لهذا الدين الذي لا نعرف عنه الكثير، وربما لجرأة منبر ثقافي مصري في تبني حق من يعتنق اعتقادا يخالف الديانات السماوية المعترف بها لدينا أن تتاح له فرصة التحدث عن معتقده دون أن ينتقص ذلك من حقوقه كمواطن، وهي شجاعة قد لا تتوافر لدى الكثيرين في مجتمعنا.
لكن بدا الأمر جد مختلفا مع أسرة تنتمي في جزء كبير من ثقافتها وتاريخها الشخصي لثقافة غربية تؤمن بالتعدد والاختلاف، ومن ثم كان حلول أفراد من هذه الأسرة ضيوفا على مائدة حوار “منتدى الدين والحريات” أمرا يحمل قدرا كبيرا من الشجاعة.
ربما شجعهم على ذلك ما سبق أن قامت به المبادرة المصرية للحقوق الشخصية من مساندتهم بقوة في محاولة انتزاع الاعتراف بهم كديانة في المعركة الشهيرة التي خاضتها أمام القضاء، والمعروفة إعلاميا بـ”معركة الشرطة” بفتح الشين، التي بموجبها أصبح للبهائيين الحق أن يدون في خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي الخاصة بهم بالعلامة (-) تعبيرا عن عدم اعتناقهم أيا من الديانات السماوية الثلاث، واختيارهم ما هو مخالف لها.
بطبيعة الحال حرصت ضيفة الندوة ومنظموها على عدم الخوض في العقائد دفاعا او تبريرا، أو محاولة الكشف عن جوهر الاختلاف بين معتقدهم، وغيره من الأديان السماوية، والمفارقة أنها سعت طيلة الوقت إلى الاستشهاد في حديثها بآيات من القرآن الكريم، على عكس المتوقع من لجوئها إلى الاستشهاد بقبس من وحي الباب أو البهاء.
بداية الرحلة
خاضت سوسن حسني رحلة في التنقيب في العقائد والأديان حين كانت تعمل كمحاضرة بإحدى الجامعات الإماراتية، ما أثار لديها العديد من الأسئلة في ما يتعلق بالتاريخ والفقه والتفسير، لتبدا رحلة البحث عن إجابات واضحة لتلك الأسئلة، اعتمادا على التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، واللجؤ إلى النص بشكل مباشر. انتهت رحلة بحثها إلى أن رسالة الله لا تنقطع، وأن عليها التماسها في رسل آخرين، فاهتدت إلى “رسائل الباب”، وبالطبع جلب عليها ذلك العديد من التحديات جراء تخليها عن اعتناقها الإسلام والتحول إلى اعتقاد يخالفه.
سوسن حسني
تنكر لها الأهل والمجتمع، وفقدت وظيفتها هي وزوجها، لكنها أصرت على مواصلة خوض التجربة، التي أفضت إلى اعتقالها مع آخرين بتهمة تشكيل تنظيم لقلب نظام الحكم في عام 1984 في القضية التي ضمت 49 من البهائيين المصريين، من بينهم الفنان حسين بكار، وتم إخلاء سبيلهم بعد تسعة أيام، حين أنبرت أصوات في الصحافة كالكاتب الراحل مصطفى أمين للدفاع عن حقهم في حرية الاعتقاد. بعدها بدأت رحلة الهجرة بعيدا عن الوطن، كمحاضرة في جامعات الصين وإيرلندا، حتى رست سفينتها في بريطانيا التي تقطنها إلى الآن.
قيم التعايش
الحضور الأهم في الندوة يمثله الابن المهندس (حاتم الهادي) رغم أن حضوره في البداية بدا هامشيا، ربما ليشد من أزر الأم التي شارفت على الثمانين، لكنه ما لبث أن تطوع للإجابة عن عدد من الأسئلة بدا فيها هادئا ودودا واثقا كمتحدث موضوعي يصف واقعا اجتماعيا وسياسيا، وليس باعتباره متدينا ينافح عن إيمانه. فهو أكد في حديثه على قيم التعايش والتسامح ما بين الأديان، واستيعاب البهائية لسائر الأديان وأفكارها وعقائدها، مستشهدا ببعض مقولات البهائية مثل “الصدق هو أكبر الفضائل”، فيما بدا أقرب إلى الحكم التي نطالعها عند بوذا أو كونفشيوس أو حتى أرسطو، لكنها لا تشبه تلك النصوص السماوية.
دافع الشاب صاحب الثقافة الانجليزية العائد إلى مصر بأسرته المكونة من زوجة وأربعة أبناء عن الحقوق الشخصية للبهائيين كمواطنيين مصريين لا كجماعة دينية أو طائفية، ورفض ما يروجه البعض عن علاقة البهائيين بإسرائيل أو الصهيونية العالمية، من خلال عرض تاريخي موثق يبدأ منذ أعلن البهاء عن ديانته عام 1863 في بغداد، ونفيه بعدها إلى عكا عام 1868، ووفاته عام 1892، وجميعا تواريخ سابقة على نشأة الكيان الصهيوني، إلى أن وصل إلى تأسيس المحفل المركزي المصري للبهائية عام 1924.
شعار البهائية
جرس إنذار
الندوة وما شهدته من حضور لافت بدت وكأنها تدق جر س الإنذار لتنبيه المجتمع بأن ثمة مواطنين مصريين لا يزالون يبحثون عن الاعتراف بهم وبحقوقهم الشخصية، ويتطلعون إلى رفع معاناة وتهميش مجتمعي ينال منهم كل يوم نتيجة عدم الاعتراف بهم، فالدكتورة سوسن حسني لم تحظ باعتراف بزواجها إلى الآن، ومثبت أمام خانة الحالة الاجتماعية في بطاقة الهوية أنها (آنسة)، وهي الجدة لعشرة أحفاد.
الرأي الغالب بين حضور الندوة بدا متعاطفا مع الاعتراف بحقوق البهائيين كمواطنين بصرف النظر عن ديانتهم، باعتباره أمرا لا يضر، ويتوافق على مفهوم الدولة المدنية الحديثة التي ظلت مطلبا ناضلت من أجله أجيال من المصريين.
بهائيون من دول العالم