تاريخ التيار السلفي مع الأقباط ينطوي على قدر كبير من الانتهازية السياسية، فمنذ بدء الترويج الواسع لأفكار رموز التيار في مصر بين طلاب الجامعات في السبعينيات من القرن الماضي، أخذوا في نشر كتابات تنظر إلى المسيحيين على أنهم «كفار» وليسوا شركاء في الوطن، حسب فتاوى منظري السلفية في مصر أمثال الشيخ محمد إسماعيل المقدم، وياسر برهامي، وأبو إسحاق الحويني، وغيرهم من مروجي الفكر السلفي الوهابي.
ويحفل موقع «صوت السلف» بفتاوى أجمع عليها أعضاء الدعوة السلفية تقوم على أن «غير المسلم» لا يجوز له أن يتولى الولايات العامة، مثل قيادة الجيش أو حتى سرية من سراياه، كما لا يجوز لهم أن يشتركوا في القتال، أو تولي مناصب الشرطة والقضاء، أو تولي أي وزارة، فهم يرون أن مبدأ المساواة المطلقة بين مواطني البلد الواحد يناقض الكتاب والسنة والإجماع، وفق ما أصدره شيوخهم من فتاوى مستمدة من كتابات ابن القيم وابن تيمية وأفكار السلفية الوهابية السعودية، أمثال ابن عثيمين، وابن باز، بحق الأقباط في نواح كثيرة سواء بناء دور العبادة، أو إلقاء السلام عليهم وتقديم التهنئة لهم بأعيادهم، أو إلزامهم بدفع الجزية، وغيرها من فتاوى تنافي سماحة الدين الإسلامي.
يذهب قادة السلفية إلى تحريم بناء الكنائس بشكل قاطع، وفي هذا المعنى يقول أبو إسحاق الحويني: “في ميثاق عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- أنه إذا هدمت كنيسة وسقطت لا ينبغي لها أن تجدد”، واعتبر أن السماح للأقباط بتناول أمور دينهم عبر الفضائيات “من علامات آخر الزمان”، وهو ما أكده أيضا الشيخ السلفي فوزي عبدالله، بقوله: “يجب عليهم الامتناع من إحداث الكنائس والبيع، وكذا الجهر بكتبهم وإظهار شعارهم وأعيادهم في الدار؛ لأن فيه استخفافًا بالمسلمين”.
أبو اسحاق الحويني
ولم تقتصر فتاوى السلفيين على ذلك، بل وصلت إلى وجوب قتال الأقباط حتى يسلموا أو يعطوا الجزية صاغرين، حسب ما ورد في كتاب “فقه الجهاد” لنائب رئيس الدعوة السلفية، وما ورد في خطبة الحويني عن “الولاء والبراء”، عن الجزية ووجوب “أن يدفعها المسيحي وهو مدلدل ودانه”. وهو ما يخالف كتب الفقه المعتمدة من الأزهر الشريف، التي توضح أن الجزية تُدفع شريطة الدفاع عن الأرض والعرض من قبل جيوش المسلمين، وهو الأمر الذي لا ينطبق على الأقباط في مصر، بنص ما صدر عن دار الإفتاء، لأنهم يشاركون في الجيش ومنخرطون داخل الدولة في كل مناحي الحياة.
كما توالت دعوات الفكر المتطرف لأتباعه لتطبيق “عزلة مجتمعية” على أصحاب الديانات الأخرى، خاصة الأقباط، عبر تحريم المعاملة في البيع والشراء والتهنئة بالأعياد، مثلما جاء على لسان الشيخ صفوت الشوادفى، نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر: “إن الشريعة حرمت علينا أن نشارك غيرنا في أعيادهم سواء بالتهنئة أو بالحضور أو بأي صورة أخرى، وعلى غير المسلمين، عدم إظهار أعيادهم بصفة خاصة أو التشبه بالمسلمين بصفة عامة”.
صفوت الشوادفى
وفي فتوى أخرى نشرتها مجلة “التوحيد”، المنبر الإعلامي لجماعة أنصار السنة المحمدية، يقول الشيخ محمد عبدالحميد الأثري: “لا يجوز أبدا أن تهنئ الكفار ببطاقة تهنئة أو معايدة، ولا يجوز لك أيضًا أن تقبل منهم بطاقة معايدة بل يجب ردها عليهم ولا يجوز تعطيل العمل في أيام عيدهم”. وهو نفس ما جاء في فتوى برهامي: تهنئة الكفار بعيد الكريسماس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، وحضور حفلات عقد قران الأقباط حرام، لما يذكر فيها من عبارات تخالف العقيدة.
وزادت حدة الخطاب السلفي التكفيري للأقباط بعد ثورة يناير ٢٠١١، ففي أول اختبار انتخابي للاستفتاء على الدستور في ١٩ مارس، أعلن مشايخ السلفية، محمد حسين يعقوب وياسر برهامي وعبد المنعم الشحات، أنه يجب على الجميع الإدلاء بـ”نعم” للحفاظ على هوية الدولة الإسلامية، لعدم إعطاء فرصة للأقباط بتغيير الدستور وتغيير هوية الدولة، حسب زعمهم.
وحين أقدم الإخوان من خلال حزب الحرية والعدالة على التقارب مع الأقباط، لاعتبارات السياسة ونص القانون على كوتة الأقباط في البرلمان، وقامت بعض قيادات مكتب الإرشاد بزيارة الكاتدرائية قبل وفاة البابا شنودة، ثم تقديم العزاء في وفاته، وقتها خرجت القيادات السلفية تتهم الإخوان بالموالاة للكافرين والتساهل في أحكام الدين، حسب قولهم.
وإزاء اصرار السلف على خطاب العنف والتكفير ضد الأقباط، لجأت الكنيسة إلى القضاء لحمايتها من تداعيات تلك الفتاوى، وشهدت ساحات المحاكم أكثر من دعوى قضائية، رفعها الأقباط بسبب فتاوى ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية، التي اعتبرها الأقباط تحريضا ضدهم وازدراء لمعتقداتهم.
ياسر برهامي
وعلى الرغم من كل الفتاوى التي أصدرتها الدعوة السلفية بحق الأقباط، بل ورفضهم المشاركة في الانتخابات البرلمانية في ٢٠١٢، أو أن يكون لهم تمثيل في البرلمان، إلا أن انخراطهم في الحياة السياسية، دفعهم إلى إحداث مواءمات في مواقفهم الرافضة للتعامل مع الأقباط، ومع الوقت بدأت عمليات التبرير للمواقف، وانقلب برهامي نفسه على فتاويه السابقة، وأهمها الفتوى التي صدرت في ٢٠١١ في كتابه “الدعوة السلفية والعمل السياسي”، وقال فيها: لا يجوز للمسيحي الترشح للانتخابات البرلمانية لأنها سلطة تشريعية ورقابية، لأن هذا سيمكنه من عزل رئيس الدولة ومحاسبة الحكومة، التي لا يحل للكافر أن يتولاها، في إشارة للمسيحيين.
إلا أن برهامي نفسه، عاد في تصريحات لاحقة حول وجود أقباط على قوائم حزب النور قبيل انتخابات مجلس النواب الأخيرة، وقال إن ترشح الأقباط على قوائم حزب النور مبني على قاعدة مراعاة المصالح والمفاسد، وأن هذه القضية بها خلاف شرعي، معتبرا أن الحزب عندما رشح الأقباط كان يبتغي مصلحة الوطن أولا، كما أن حزب النور امتثل للقانون الذي ألزم بضم الأقباط للقائمة، وذلك بعد أخذ رأى الأزهر الشريف، ونحن ملتزمون به حتى إن كان لدينا رأى مختلف، ونحتكم للقانون والدستور المصري
وبداية من الثورة على حكم جماعة الإخوان الإرهابية، رأى السلفيون أن الساحة السياسية أصبحت ملكًا لهم، وعكست تصريحات القيادات السلفية داخل حزب النور وخارجه التضارب والمراوغة، فبينما استمرت تبريرات الحزب لإطفاء نيران غضب شبابه بجواز ترشيح الأقباط لأن المجالس النيابية تخرج عن وصف الولاية، دافع رئيس الحزب يونس مخيون عن تصريح أحد قيادات الدعوة بأن ترشح الأقباط على قوائم الحزب إنما جاء “لدرء المفاسد” عملًا بقاعدة ارتكاب المفسدة الصغرى لدفع المفسدة الكبرى، بمعنى أنه لم يكن قرارا تلقائيا من قيادة الحزب لتعميق مبدأ الشراكة مع الأقباط. وأضاف: “لولا اشتراط القانون وجود نسبة منهم على القوائم لما قام أي حزب بترشيحهم، والدليل أن الحزب الوطني، وهو في أوج سلطته، لم يفعل ذلك أو فعله في نطاق محدود جدا.
يونس مخيون
وردا على اتهام حزبه بأنه لجأ إلى ضم أقباط بعضهم معارض للكنيسة الأرثوذكسية، قال مخيون: “إنهم مصريون.. وقد فتحنا باب الترشح أمام الجميع، ولا شأن لنا بأي خلافات داخلية بينهم وبين الكنيسة، فهذا أمر لا يخصنا”. وعبر عن انزعاجه الشديد من الانتقادات التي طالت الشخصيات القبطية التي ترشحت على قوائم الحزب، متسائلا باستنكار “لماذا لا ينضم الأقباط إلينا؟ هل نحن فزاعة؟ هل اعتدى أحد من حزبنا على الأقباط من قبل؟.
وردًا على تساؤل حول تفسيره لفتوى نائب رئيس الدعوة السلفية ياسر برهامي بعدم تهنئة الأقباط بأعيادهم وهو ما أغضب قطاعا واسعا منهم، أجاب :”لا أريد الخوض في المسائل العقائدية، نحن نتحدث عن المجال السياسي، والبرلمان القادم لن يخصص لمناقشة وحدة الأديان. وأضاف: “المهم أننا بالحزب نقر بأن لهم كل الحقوق الموجودة بالدستور ومنها حرية إقامة شعائرهم الدينية”.
وكانت مصادر داخل حزب النور السلفي اكدت وقتها أن الأعضاء أبلغوا القيادات كذلك رفضهم الدعاية للأقباط في الانتخابات، بحجة أن مصر دولة إسلامية يجب ألا يشارك في قيادتها «كفرة»، حسب وصفهم. وهو ما رد عليه قياديو الحزب بأن عضوية البرلمان ولاية صغرى، وأن المسيحيين لن يكونوا أصحاب رأي وقوة داخل مجلس النواب، وأن وضعهم في القوائم جاء بسبب الظروف الحالية والمواد الدستورية والقانونية الملزمة لهم.
وأضافوا أنه لا يمكن لحزبهم الانسحاب من المشهد السياسي الحالي، لأن وجودهم في البرلمان “نصرة للدين في ظل واقع يعادى التديُّن، وحتى لا يتركوا المجال لليبراليين والعلمانيين وغير المسلمين، يقفون صفاً واحداً لمعاداة الإسلام ومنع الإسلاميين من تحقيق مكاسب تخدم أهدافهم المشروعة في تطبيق الشرع”.