رؤى

مخاطر فشل دول الشرق الأوسط.. وفرص الإفلات من السقوط (2– 2)

في بداية العقد الثاني من هذه الألفية، لم تعد دول مثل اليمن وليبيا، وإلى حد ما سوريا، إضافة إلى الضفة الغربية الخاضعة لحكم السلطة الفلسطينية وقطاع غزة الذي يخضع لحكم حماس، دولا متماسكة ذات حكومات مركزية قادرة على فرض سلطاتها على الأرض، وإنما تحولت إلى ساحات لصراعات دامية.

وقاد ضعف الحكومات المركزية وعدم القدرة على السيطرة على العنف المنظم إلى تمدد الأطراف الخارجة عن السيطرة، التي تحولت بدورها إلى محاضن للتيارات الإرهابية والقوى الفاعلة غير الحكومية، وأصبحت تقوم بدور مواقع لتصدير العنف والإرهاب إلى سائر المنطقة. حدث هذا التمدد نتيجة بناء كيانات موحدة على قطعة من الأرض (إقليم أو ولاية)، أو بناء هيكل شبكي عابر للحدود.

على سبيل المثال، خلق تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مزيجا من الكيان الإقليمي الموحد في سوريا والعراق، والتمدد الشبكي في شبه جزيرة سيناء وليبيا من خلال تنظيمات مثل “أنصار بيت المقدس” (ولاية سيناء) التي أعلنت الولاء لتنظيم الدولة. وفي فترة تمدده الإقليمي من شمال سوريا إلى وسط العراق، قام تنظيم الدولة بتطوير وتوسيع بنائه الشبكي في جميع قارات العالم. وبعد زوال كيانه الإقليمي الموحد في الموصل والرقة، لا يزال التنظيم قادرا على العمل عبر بنائه الشبكي، وإلهام الكثير من الأفراد في جميع أنحاء العالم.

كيانات مهجنة

على أنقاض الدول الشرق أوسطية الفاشلة نشأت كيانات جديدة، وبينما تتجاوز هذه الكيانات مجرد التنظيمات، إلا أنها ليست دولا بالمعنى السياسي الاصطلاحي؛ لذا، يمكن الإشارة إليها كقوى فاعلة مهجنة غير تابعة للدولة(1). تطور هذه الكيانات هويات عابرة للدولة القومية، وتعمل تحت راية واسم أيديولوجيا عالمية، وترفض نموذج الدولة القومية العربية، ولا تعترف بالحدود؛ ومن ثم فهي تقوض الاستقرار على المستويين الإقليمي والعالمي. ويتمثل الهدف السياسي لهذه الكيانات في إقامة دولة خلافة إسلامية في المنطقة بأسرها، تمتد في مرحلة لاحقة خارج حدودها، وتستخدم العنف على نطاق واسع لإرهاب مناوئيها، كما توظف الشبكات الاجتماعية بكفاءة.

وعلى الرغم من هذه الأيديولوجيا العالمية، إلا أن هذه التنظيمات تقوم على أساس المقاطعات أو الولايات في المرحلة الآنية. فعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات واسعة من العراق وسوريا، فيما اعتبره التنظيم نواة لدولة خلافة ممتدة ودائمة، وليس مجرد دولة قومية. كان تنظيم الدولة في ذاته دولة فاشلة على غرار الدول العربية التي سعى إلى إقامة مشروعه على أنقاضها، حيث كان يعاني من ذات المشكلات المزمنة التي تسببت في هزيمته وزوال كيانه الموحد في نهاية المطاف.

على الصعيد ذاته، فإنه برغم الأيديولوجيا التوسعية الإسلاموية التي يتبناها حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن، اللذان يسيطران بفاعلية على دولتيهما، إلا أنهما عجزا عن خلع الشرعية عن هذه الدول. رغم ذلك، فقد سعى كل منهما بقوة إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي، وذلك عن طريق انخراط حزب الله في الحرب الأهلية في سوريا، ودخول الحوثيين في حرب طاحنة ضد المملكة العربية السعودية، وذلك بالوكالة عن دولة إيران، التي – برغم كونها دولة قومية أقدم بكثير من الدول العربية – ترفض النظام العالمي القائم على مفهوم الدولة القومية منذ تحولها إلى جمهورية إسلامية عام 1979.

ووفقا لآية الله الخميني، الأب المؤسس للجمهورية الإسلامية، فإن “الثوررة الإيرانية ليست قاصرة على إيران؛ لأن الإسلام لا يخص شعبا دون آخر … سنصدر ثورتنا عبر العالم لأنها ثورة إسلامية، وسيستمر الصراع حتى تتردد دعوة ’لا إله إلا الله، محمد رسول الله‘ في جميع أرجاء العالم”(2).

ينطبق الأمر ذاته على حركة حماس – الجناح الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين – التي تُخضع هدفها في إقامة دولة فلسطينية على أنقاض الدولة اليهودية لهدف أسمى يتمثل في إقامة دولة خلافة إسلامية بما يتماشى مع رؤية الجماعة الأم في مصر. فقد ذكر محمود الزهار، القائد البارز في حركة حماس، أن “الرؤى الإسلامية والتاريخية ترفض طرح إقامة دولة فلسطينية مستقلة … في الماضي لم يكن هناك دولة فلسطينية مستقلة …]لذا فإن[ هدفنا يتمحور حول إقامة دولة إسلامية عظمى، سواء في إطار وحدة عربية أو وحدة إسلامية”(3).

نذر سوء

ومع تفكك الدول القومية في الشرق الأوسط يزداد نفوذ هذه القوى الفاعلة المهجنة المارقة على الدولة القومية، على الأقل منذ أن أظهرت الثورات العربية أن التهديد الأخطر على منظومة الدولة القومية يكمن في الداخل، وليس في الخارج، حيث قاوم مناوئون محليون بالأساس كلا من الأنظمة الاستبدادية التي استمرت لعقود، والأنظمة الجديدة التي حاولت أن تؤسس لشرعيتها، مثلما حدث في سوريا وليبيا والعراق واليمن والسلطة الفلسطينية.

وتبقى قدرة الأنظمة الجديدة على التجذير لنفسها رهنا بعدة عوامل تجملها الدراسة في الوحدة الوطنية في ظل إطار وطني جامع يحقق مستوى أقل من الانقسامات، والفعالية والاستقرار السياسي والإجرائي لمؤسسات الدولة، والقوة الاقتصادية والعسكرية للدولة. ويحدد المزج بين هذه العوامل جميعها قدرة الأنظمة الجديدة على توطيد أركان حكمها. لكن، حتى الآن، لم يؤد هذا المزج إلا إلى مزيد من العنف وتأجيج الصراعات الداخلية. ومن ثم، فإنه من المنطقي أن نفترض أنه لن يكون هناك أية تطورات سريعة في أوضاع الدول الضعيفة والفاشلة في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، تتوقع الدراسة أنه على المديين القصير والمتوسط ستنتقل حالة عدم الاستقرار إلى مزيد من الدول، وستتعمق في الدول التي تعاني منها فعليا(4). وتخلص الدراسة إلى إن هذا التوجه “يحمل نذر سوء لأمن المنطقة، وقد يؤثر بالسلب على النظام العالمي ككل”.

[1] Carmit Valensi, “Non-state Actors: Theoretical Limitations in View of the Changing Reality in the Middle East,” Military and Strategic Affairs, Mar. 2015.

[2] Efraim Karsh, Islamic Imperialism: A History (New Haven and London: Yale University Press, 2006), p. 217.

[3] “Exclusive Interview with Hamas Leader,” The Media Line, Sept. 22, 2005; Walid Mahmoud Abdelnasser, The Islamic Movement in Egypt: Perceptions of International Relations, 1967-81 (London: Kegan Paul, 1994), p. 39.

[4] Karsh, Islamic Imperialism, pp. 213-4.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock