كتاب “بلاغة الإسلاميين: اللغة والثقافة في مصر المعاصرة” لمؤلفه جاكوب هوجيلت، أحد أهم الكتب التي تتناول الخطاب الإسلامي المعاصر. الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه لباحث سويسري مهتم بالحركة الإسلامية، وبالثقافة العربية، وهو في عمله هذا يهتم بكتابات ثلاثة من رموز الخطاب الإسلامي، وهم: الشيخ يوسف القرضاوي ممثلا للفكر الديني المحافظ، وعمرو خالد ممثل الوعاظ الجدد، والدكتور محمد عمارة ممثل تيار الوسطية.
يوسف القرضاوي عمرو خالد محمد عمارة
السياق الاجتماعي والتاريخي
الصفقة غير المعلنة التي عقدتها الدولة مع جماعة الإخوان في مطلع السبعينيات، والتي سمحت بعودة عناصر الجماعة للظهور علانية، وعدم ملاحقتهم أمنيا شرط هجرهم للسياسة، تاركة لهم المجال الاقتصادي والاجتماعي، مهدت الطريق لصعود كيان إسلامي مواز عبر أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية تقدم للمواطنين خدمات يفترض أن توفرها الدولة.
حراك الطلاب الإسلاميين في السبعينيات، الذي دعمه الرئيس السادات في مساعيه للقضاء على وجود الماركسية والناصرية في الجامعات المصرية، عمل على تعزيز انتشاره عبر محاور ثلاثة: المساجد، الكيانات الخيرية الإسلامية (عيادات صحية، مدارس)، والمشاريع التجارية الهادفة للربح (بنوك ودور نشر).
تواكب ذلك مع سيطرة الإخوان على نقابات مهنية هامة مثل نقابة الأطباء والمحامين، لتنشأ ببطء شبكة غير رسمية واسعة وغير مركزية لها صلات على مستويات عديدة بالحكومة والمؤسسة الدينية الرسمية، ما ساعدهم على اختراق الطبقات العليا في المجتمع، منذ منتصف التسعينيات، عبر تنظيم صالونات دينية، وأنشطة اقتصادية متنوعة ذات صبغة إسلامية، كما يصفونها.
وساهم في تعزيز هذا الانتشار كثير من المصريين الذين عملوا في بلدان الخليج كمهندسين وأطباء ومدرسين في السبعينيات والثمانينيات، وعاد الكثير منهم لتجتذبهم الأنشطة الاقتصادية الموازية التي أسستها عناصر إخوانية، واصطحبوا معهم الثقافة المحافظة السائدة في بلدان الخليج، لتأخذ في الانتشار الواسع في أرجاء مصر، مدعومة بتمويل خليجي في دعم إنتاج ونشر الكتب والمجلات والتسجيلات الدينية المحافظة.
على هذه الخلفية، بدأ التنافس على الشرعية الرمزية بين الإسلاميين والدولة. وفيما اهتمت الدولة بالاحتفاظ بالسلطة مع السماح بمساحة أكبر للنشاط الديني في مجالات بعينها، اقتنص الإسلاميون الفرصة للدخول مع الدولة في مواجهات غير مباشرة عبر القضاء، بإحالة الكثير من المؤلفات التي اعتبروها غير إسلامية إلى ساحات المحاكم.
تبارت الدولة والإسلاميون في الظهور بصورة الأكثر التزاما بالطابع الإسلامي، ما أفسح المجال لترسيخ الفكر والسلوكيات المحافظة دينيا وثقافيا. وعزز من هذا التوجه أداء المؤسسة الدينية الرسمية التي يغلب عليه الطابع المحافظ في المسائل الدينية والثقافية.
جماعات الخطاب
- علماء المؤسسة الدينية
بحسب المؤلف، فإن علماء المؤسسة الدينية هم جماعة من الفاعلين الذين تلقوا تعليما إسلاميا في واحدة من المؤسسات التعليمية الإسلامية الكبرى والعريقة، ويعملون في مجال الفكر والممارسة الإسلامية. ومن ثم فهم خبراء في علم من العلوم الإسلامية التقليدية أو أكثر: كالفقه، وأصوله، والعقيدة، وهلم جرا. وهم على دراية وثيقة بالتراث والتاريخ الإسلامي، ويقبلون بالمذهب الأشعري. غير أنهم يمتازون بسمتين عامتين، هما: الميل نحو إتباع النهج المحافظ عند النظر في النصوص الدينية وتعاليم الفكر الإسلامي المحافظ، والانشغال بالدفاع عن سلطتهم وأهميتهم في المجتمع.
- الدعاة الجدد
خلال التسعينيات، ظهر دعاة من نوع جديد في مكانة بارزة بمصر، وهم لا علاقة لهم بالأزهر أو الإخوان المسلمين، ولا يرتدون الجلاليب بل البذل والكرافتات. وتعليمهم الديني ضئيل، ويركزون على قضايا أخرى غير الفقه والحديث.
ركز هؤلاء الدعاة الجدد على تبني رسالة دينية بسيطة ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة الحديثة. وتتمثل أركان خطابهم في اتخاذ موقف إيجابي من الحياة، والانفتاح على العالم، والمحافظة، وتفضيل السوق الحرة، وتشجيع روح المبادرة، ويعتمدون في نقل أفكارهم ونشرها على وسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت والتلفزيون وأشرطة الكاسيت أو الأقراص المدمجة والقنوات الفضائية.
قد ارتبط ظهورهم بعدة تطورات: إقامة الصالونات الإسلامية التي يعقدها الأثرياء، ونشوء محاولات ربط الدين بالأعمال التجارية؛ إلى جوار الأهمية المتزايدة للطب البديل وفهم الظواهر الطبيعية ركونا للقرآن والسنة، مع ظهور الفرق الموسيقية الإسلامية الجديدة، التي تنشد أغاني دينية عن الله والإسلام بدلا من الحديث عن الحب الدنيوي.
- المثقفون الوسطيون
يحظى هؤلاء بمكانة متميزة في الحقل الإسلامي على الرغم من عدم انتسابهم لمؤسسة بعينها. وهم يمثلون مجموعة متنوعة من المهن بداية من الصحافة إلى العلم بالعقيدة، ولكن ما يجمعهم هو أنهم جميعا مثقفون بارزون في النقاش المجتمعي العام. ويركز مشروع هؤلاء الدعاة على تجديد الفكر الإسلامي وفق مقتضيات العالم المعاصر، بما يحول دون توغل العلمانية في مصر والمجتمعات الإسلامية عموما، باعتبار أن العلمنة برأيهم على غير وفاق مع الإسلام.
- الإسلاميون الجدد
ما يجمع هؤلاء هو السعي لإعادة تعريف الإسلام ضد كل ما يطرحه الإسلاميون والمؤسسة الدينية. ويضم هذا التيار شخصيات فكرية متنوعة مثل محمود محمد طه، عبد الله الشرفي، حسن حنفي، عبد الكريم سروش ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني. ويمثل هؤلاء المفكرون فكرا يقدم نفسه في قطيعة مع التيارات المحافظة المتعددة في المشهد القائم، والتي تضم الدولة، وعلماء الدين الرسميين، والإسلاميين.
الخطاب البلاغي
يميز المؤلف بين ثلاثة أشكال لبلاغة الخطاب الإسلامي: بلاغة السلطة والمرجعية الدينية، وبلاغة العاطفة الدينية، وبلاغة المجادلة، بحيث يمثل كل كاتب موضع للدراسة والتحليل واحدة منها. فيمثل يوسف القرضاوي بلاغة السلطة الدينية، وعمرو خالد مثال على البلاغة العاطفية، بينما يكون محمد عمارة معبرا عن بلاغة المجادلة.
- بلاغة السلطة
تعتمد هذه البلاغة على سلطة رجل دين يتمتع بالاحترام، ويحاول أن يؤسس لسلطته كحارس للتراث، من خلال استعمال اللغة. ويمثل هذه البلاغة يوسف القرضاوي، الذي يقدم نفسه كعالم موضوعي يستعمل ضمير الغائب بصيغة الجمع ليقلل من شأن الناس الذين يختلف معهم. من أمثلة ذلك في نقده للمفكرين الليبراليين: “ولكن هؤلاء العلمانيين المتعالمين يتعالون على سنة رسول الله، ولا يعتبرونها كافية في حكم كهذا”.
ويغلب على خطابه نظرة متعالية على عامة المسلمين من غير المنتمين إلى نهجه، سواء من المحافظين أو الليبراليين، كما يبدو في قوله: “مقابل هؤلاء الجامدين المجمدين، نجد المتفتحين المتسيبين، الذين يريدون أن ننخلع من تراثنا كله، ما كان منه إلهيا، وما كان منه بشريا، وأن لا نتقيد بنص ولا قاعدة”.
ويرصد المؤلف أن القرضاوي يتبنى صيغة خطاب تدعم صورته كعالم دين، فهو يتجنب العويل والصراخ، متبنيا نبرة محسوبة وغير شخصية، ولا يوجد أهمية تذكر للقراء في كتاباته ولا يقدم لهم سوى معلومات نادرة. وحتى عندما يستخدم الأسئلة، فإنه يستخدمها بطريقة تربوية، ومصدر المعرفة الغالب لديه هو مخزون التراث الديني العربي، بأساليبه اللغوية والبلاغية.
باختصار يمكن القول بأن القرضاوي ينشئ سلطته ومرجعيته، ليس بفضل سماته الشخصية ومضمون خطابه فقط، بل وبفضل طريقته في صياغة هذا الخطاب. فهو يقف على مسافة من قراءه وينتج صورة للإسلام كدين هرمي قوي حيث القراء في حاجة إلى إرشاد من أعلى ليقوموا بمهمتهم السياسية والدينية لإحياء الإسلام.
كما أنه يستخدم سلطته كعالم دين لتحديد من لهم حق المشاركة في الحقل الديني، ومن ليس لهم هذا الحق، ويجعل أحكامه تبدو كالضروريات الطبيعية. وبهذا يستبعد المفكرين الليبراليين المسلمين ويشكك بشدة في مصداقية غيره من علماء الدين الذين يعارضونه.
2. بلاغة العاطفة
تعتمد هذه البلاغة على العاطفة والوجدان، وتستمد قوتها من قدرة منتجها على التقرب للجمهور، واصطناع لغة قريبة منه. حيث يشجع عمرو خالد على التفاعل بينه وبين جمهوره، بل وبين الجمهور بعضهم البعض أيضا. فيستخدم الضمير “نحن”، ليخلق شعورا بالألفة في نصوصه، ويثير مشاعر التعاطف المتبادل بينه وبين قرائه. وعلى هذا النحو، يرسم لنفسه صورة المدرب الروحي والصديق بدلا من أن يظهر في صورة المعلم، ومن ذلك قوله: فأقول لكم أيها الشباب كلاما نابعا من قلبي: انظر إلى أهلها … انظر إلى أمها وأبيها … انظر إلى دينها… انظر إلى أخلاقها … ثم انظر إلى الأشياء الأخرى … إنك تتزوج عائلة … تتزوج أخلاقًا… هذا هو الإحسان في اختيار الزوجة.
كذلك فإن محصلة استعمال عمرو خالد لجمل الاستفهام والأمر، هي دفعه لجمهوره للرد على دروسه. ومن هنا جاءت الأسئلة الموجهة لهم التي تتحداهم ليقدموا جوابا فوريا، والأوامر التي تطلب منهم أن يهموا بالعمل. ويبدو ذلك محاكاة للغة الدعاية، فالمعلنون يؤثرون في المستهلكين بجمل الاستفهام والأمر كأدوات لغوية رئيسية، ومنه قوله: أنت ما هدفك وماذا تريد؟ حدد هدفك، فماذا تريدون يا أخوتي! تريدون الله؟ فالطريق إليه واضح، ولستم بحاجة إلى محاضرات طويلة … لكن حدد هدفك، فإن لم تكن تعرف ماذا تريد سوف تتخبط في الدنيا وستموت وأنت لا تدري ماذا تريد، وستقف يوم القيامة وأنت لا تعرف أين تقف ولمن تذهب؟.
3. بلاغة المجادلة
وتمثل أعمال محمد عمارة نموذج هذه البلاغة، وهي أعمال لا تكاد توجد فيها أي استخدام لضمير المتكلم، وذلك يبين لنا الطبيعة الأكاديمية لنصوص المؤلف. كذلك يندر استعمال ضمير الغائب بصيغة الجمع. فيما يتم استعمال ضمير المتكلم بصيغة الجمع على ثلاثة معان: “نحن” الدالة على المؤلف نفسه فقط، و”نحن” كجماعة دينية / عرقية، و”نحن” الدالة على المؤلف والقارئ. ويتغلب ظهور الدلالتين الثانية والثالثة.
وفيما يتصل بصيغة الجملة فإن محمد عمارة يحرص طوال كتابته على ألا يجد القارئ فرصة للتفكير، فهو يقف تحت قصف الأسئلة التي تكرهه إكراها على الاتفاق مع صاحبها. والأسئلة البلاغية المطروحة في النصوص تتحدى القارئ مباشرة، بما يحول دون خلاف يؤذي العلاقة بين الكاتب والقارئ. وعلى هذا النحو، يحاول عمارة عبر ذلك إجبار القارئ على الوقوف في صفه.
وبعبارة أخرى، إن نصوص عمارة تتخلص ممن هم في خلاف معها، ومن أدلة ذلك هذا المقطع الطويل: ونحن نود أن نتساءل: هل حديث رسول الله (ص) هنا، “نقصان العقل والدين” يعني الذم؟ أم أنه يعني تقرير واقع غير مذموم؟.. بل قد يكون هو الواقع –المحمود؟!.. إن النقص –المذموم، في أي أمر من الأمور، هو الذي يزول بتغييره .. فهل يجوز للمرأة أن تجبر النقص في شهادتها عن شهادة الرجل، فتزيل الذم عنها؟ بالطبع لا .. فهي مثابة ومحمودة على هذا النقص، لأنها به تمتثل شرع الله .. فهو ليس بالنقص – المذموم، وإنما هو محمود؟! وهل يجوز للمرأة الحائض أن تصلي وتصوم، فتزيل نقص الدين؟ كلا .. فهي إذا أزالت هذا النقص في الدين كانت مذمومة، بارتكابها حراما دينيا.. وهي تؤجر دينيا على التزامها هذا النقص في الدين؟! فهو نقص محمود!.. فالمقام، في الحديث النبوي، مقام تقرير واقع شرعي، تؤجر عليه المرأة، وتحمد بالتزامه.
انتقادات أساسية
يمثل هذا الكتاب إضافة يستفيد منها المشتغلون بالحركة الإسلامية، لما يحمله من نضج في النظر للحركة من زاوية كونها تمثل قطاعا عريضا من التوجهات الفكرية المتشابكة. ومع إدراك المؤلف لهذا التنوع الملحوظ، من الملاحظ أنه لا ينفي وجود جوانب اتفاق ممكنة في المبادئ الفكرية العامة، وفي الخطوط العريضة. ومن مستوى آخر، وهو المستوى المنهجي، يمثل هذا الكتاب رافدا أساسيا للمشتغلين بتحليل الخطاب، والمهتمين بتحليل النصوص باستخدام أحدث المناهج اللغوية.
مع ذلك توجد بعض الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الكتاب، فهو أولا يغفل دور السلفيين كجماعة متنوعة التوجهات، ولها حضور قوي، بفضل ما لهم من علاقات اجتماعية واسعة المدى بفضل الجمعيات الأهلية التي تتبعهم، أو بفضل اتساع شبكة علاقاتهم على مستوى مصر والوطن العربي. وثانيا، لم يستطع الكتاب أن يضع كل كاتب داخل شبكة علاقات جماعته المرجعية، وهو ما يتضح في رسم حدود كل جماعة من الجماعات المحددة بالكتاب، وفي ارتباك المؤلف فيما يجريه من مقارنات.