ترامت إلى مسامع الفتى تلك الاتهامات والمطاعن في عقيدة الشيخ محمد عبده، واتهام بعض المشايخ له بالكفر والإلحاد، فانفلت إلى الرواق العباسي بالجامع الأزهر ليحضر دروس الإمام في تفسير القرآن وقراءة “دلائل الإعجاز” لعبد القاهر الجرجاني، فلما استمع بنفسه للمفتي الأكبر، خرج وهو يقول: “اللهم إن كان هذا إلحادا فأنا أول الملحدين”.
الشيخ مصطفى عبد الرازق، العالم الأديب المفكر، وأستاذ الفلسفة الرائد، وشيخ الأزهر المستنير، وحامل راية الإصلاح الأزهري، وأستاذ أجيال من كبار المفكرين والفلاسفة في كل الجامعات العربية.. كان الأستاذ المصري الوحيد بين هيئة تدريس كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول وقت التحاقه بالكلية أستاذا مساعدا، بعد أن ظل تدريس الفلسفة في الجامعة المصرية حكرا على الأجانب، حتى عام 1927.
بدأ عبد الرازق تدريس الفلسفة الإسلامية مع أستاذين من أساتذة السوربون هما إيميل برييه أستاذ الفلسفة اليونانية، وأندريه لالاند، أستاذ الفلسفة الحديثة، وحقق عبر محاضراته ودروسه مكانة كبيرة جدا ربما لم تتح لأحد من رواد هذا الميدان من معاصري الشيخ.
وقد أقر كل المشتغلين بالفلسفة من معاصري عبد الرازق، أو ممن جاءوا بعده بأسلوبه المتفرد في التدريس، فزكي نجيب محمود يرى أن الشيخ “قد نحا منحى جديدا في دراسة الفلسفة الإسلامية، وأرسى دعائم مدرسة كانت الحياة الفلسفية أحوج ما تكون إليها”، أما أنور عبد الملك فرأى أن عبد الرازق كان “مبدعا ورائدا، إذ أعاد منهاجية تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى ضرورة الأخذ بأصولها التاريخية الذاتية”.
وقد حقق كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” الذي يعد أبرز أعمال الشيخ شهرة واسعة جدا بين المشتغلين بالدرس الفلسفي في مصر والعالم العربي، وأصبح أحد أهم المصادر التي يرجع إليها ويستشهد بها الدارسون، وصار جزءا مهما من أي محاولة للتأريخ لحركة الفلسفة الحديثة والمعاصرة في مصر، رغم مرور سبعة عقود على صدوره، حيث طبع للمرة الأولى عام 1944.
وعن مكانة الكتاب قال محمد عابد الجابري: إنه من المحاولات الرائدة والطموحة في وقته، ووصف مؤلفه بأنه “من الأساتذة الذين ساهموا مساهمة كبيرة في إعادة بعث وإحياء الفلسفة في الفكر العربي الحديث بعد أن بقيت مخنوقة مقموعة طيلة عصر الانحطاط منذ وفاة ابن رشد”.
اختط صاحب التمهيد لنفسه طريقا ثالثا، خالف فيه رؤية الغربيين والمستشرقين الذين توجه جهدهم للبحث عن عناصر أجنبية في الفلسفة الإسلامية، مع محاولة ردها إلى أصول غير عربية أو إسلامية، كما خالف فيه رؤية فريق من الإسلاميين وصفهم عبد الرازق بأنهم “يزنون الفلسفة بميزان الدين”.
وقد تناول المؤلف بالنقد آراء عدد من الفلاسفة والباحثين والمفكرين الغربيين، من بينهم الألماني تنميان، المتوفى 1819، صاحب كتاب المختصر في تاريخ الفلسفة، والفرنسيين فيكتور كوزان، المتوفى 1847، وأرنيست رينان، المتوفى 1892، صاحب كتابي ابن رشد ومذهبه، وتاريخ اللغات السامية.
وربما طغت شهرة كتاب التمهيد على غيره من مؤلفات الشيخ، فكاد النسيان يطويها رغم أهميتها، ومنها: “فيلسوف العرب والمهلم الثاني” في سيرة الكندي والفارابي، وكتاب “الإمام الشافعي” وكلاهما صدر عام 1945، بالإضافة إلى كتابه عن محمد عبده وسيرته وترجمته رسالة التوحيد إلى الفرنسية.
كان للشيخ محمد عبده الأثر الأكبر في فكر وعقل عبد الرازق، ومع كل درس للإمام كانت مكانته تزيد وترتفع في نفس الشاب الأزهري، فأقبل بعقله وقلبه يقتبس من حكمتة، ويقوي علاقته به، ويحول “التلمذة العامة” إلى علاقة وثيقة، بعدما أدرك عبده ما يحمله عبد الرازق من نباهة وتفوق واستعداد لحمل رؤى الإصلاح الديني، ولما عاد الإمام من رحلته إلى أوروبا، استقبله عبد الرازق بقصيدة قال في مطلعها:
أقبل عليك تحية وسلامُ ** يا ساهرا والمسلمون نيامُ
تطوي البلاد وحيث جئت لأمة ** نُشرت لفضلك بينهم أعلامُ.
وقد رد محمد عبده على قصيدة عبد الرازق بخطاب جاء فيه: “ما سررت بشيء سروري بأنك شعرت من علم حداثتك بما لم يشعر به الكبار من قومك، فلله أنت، ولله أبوك، ولو أذن لوالد أن يقابل وجه ولده بالمدح لسقت إليك من الثناء ما يملأ عليك الفضاء، ولكني أكتفي بالإخلاص في الدعاء أن يمتعني الله من نهايتك بما تفرسته في بدايتك”.
ويتبدى أثر محمد عبده في عبد الرازق في وحدة موقفهما من مناهج الأزهر وأساليب الدراسة فيه، وإذا كانت ذاكرة الإصلاح الديني تحمل في سمعها كلمات الأستاذ الإمام التي يقول فيها: “إذا كان لي حظ من العلم الصحيح، فإني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من نظافة”، فإن نفس الذاكرة تحمل موقفا مماثلا لمصطفى عبد الرازق يقول فيه “إني نظرت في أمري بعدما قضيت ما قضيت في الجامع الأزهر، وأضعت ما أضعت من صحتي وشبابي في طلب العلم، فلم أجد ثمنا لما بذلت إلا حشدا من الصور والخيالات لا يضيء البصيرة ولا يبعث العزيمة، ولا يعد للسعادة في الحياة الدنيا ولا في الآخرة”.
وفي تقديمه لكتاب “الإسلام والتجديد في مصر” للمستشرق الأمريكي تشارلز آدمز (توفى 1948)، يقول صاحب التمهيد: “لا جرم كان القبس الروحي الذي ألقاه الشيخ محمد عبده في الأزهر وفي غير الأزهر يشتعل رويدا، وكانت بذرور الحرية والإصلاح التي ألقاها بكلتا يديه تنمو في كل ناحية”.
ووفاء لجهود أستاذه، ترجم عبد الرازق رسالة التوحيد إلى الفرنسية، وشارك في كتابة مقدمة لها بالتعاون مع المستشرق الفرنسي ميشيل برنار، كما ألقى عام 1919 سلسلة محاضرات في الجامعة المصرية، تناول فيها حياة الأستاذ الإمام، ودوره الرائد في حركة التنوير.
ويقول الشيخ علي عبد الرازق في الكتاب الذي وضعه عن شقيقه، بعنوان “من آثار مصطفى عبد الرازق”: “كان من دأبنا أن نقضي في البلد (البهنسا) كل مسامحة دراسية، فأخذ يشركني معه فيما يشتغل به من دراسة، فكانت كلها أو معظمها دراسات تتصل من قريب أو بعيد باسم الأستاذ الإمام، قرأنا معا تفسير جزء عم لمحمد عبده، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والبصائر النصيرية والعقائد العضدية.”.
وبعد توليه المشيخة الكبرى أواخر عام 1945 حاول عبد الرازق أن يحقق أمنية عبده بإصلاح الأزهر، وأخذ بالفعل في استكمال الجهود التي بدأها الشيخ مصطفى المراغي، وقد وعلق العقاد على خطوات عبد الرازق الإصلاحية بقوله: “لدينا كبير الرجاء في إنجاز هذه المهمة العظمى، بعد أن صارت مشيخة الأزهر إلى أستاذ الفلسفة الإسلامية على أحد المناهج العصرية، فإنه أقدر الناس على أن يحقق للجامع الأزهر وظيفته في ثقافة العقل وثقافة الروح”.
ويسوق تشارلز آدم ملاحظة جوهرية، إذ يرى أن عبد الرازق “مع تمسكه بالدفاع عن مبادئ الشيخ عبده، يُعنى عناية خاصة بالجوانب العقلية من النهضة التي أنشأها الإمام، أكثر من عنايته بناحيتها الدينية. وهذه الحقيقة هي التي تضع فارقا جوهريا بين نزعات الشيخ مصطفى ومراميه، وبين غيره من شيعة الإمام الذين دانوا بالزعامة للمنار”.
في صعيد مصر، وفي أسرة ميسورة عرفت بالاهتمام بالشأن الوطني ولد مصطفى عبد الرازق، عام 1885.. وكان والده الشيخ حسن عبد الرازق من مؤسسي حزب الأمة، وأيضا من مؤسسي جريدة “الجريدة”، ودرس القضاء الشرعي في الأزهر، واتصل بالإمام محمد عبده، فنشأ الفتى مصطفى في هذه البيئة المنفتحة، ثم سافر إلى باريس، ودرس في جامعتي السوربون وليون، ووضع رسالته للدكتوراه عن الإمام الشافعي.
وقد انخرط عبد الرازق بقوة في الحياة السياسية، وتولى منصب وزير الأوقاف عدة مرات، لكن اهتمامه بالسياسة لم يصرفه عن هواه الأثير المتمثل في الدرس الفلسفي، فظل وصف “أستاذ الفلسفة” أهم وأبقى ما يعرف به، حتى رحيله عن عالمنا في 15 فبراير 1947، رغم توليه مناصب كبرى على رأسها مشيخة الأزهر.
الفيديو جراف
نص: بلال مؤمن
تحريك ومونتاج: عبد الله محمد