منوعات

معارك السياسة على السوشيال ميديا.. فخاخ خطابية واغتيال للعقل

الكاتب: جيم ستون

ترجمة: تامر الهلالي 

رغم ما تحظى به المجادلات السياسية المحتدمة على منصات التواصل الاجتماعي من اهتمام لدى جمهور متابعيها، إلا أنها تبقى عقيمة وبلا طائل يرجى من ورائها في أغلب الأحيان، فأطرافها يهتمون غالبا بالفوز في الجدل والانتصار لحججهم، أكثر من حرصهم على تحري الحقيقة، الجميع يتعالى صراخهم بينما يضعون أصابعهم في آذانهم.

ما يزيد الأمر سوءا أن العديد من خبراء علم النفس يرون هذا السلوك طبيعيا، فالإنسان متحيز بالفطرة لمعتقداته أو أرائه، ويسعى دائما للدفاع عن مواقفه وإقناع الآخرين بها وحصد الفوز في أي مناقشة، وبالتالي فإن محاولات التصدي لتصويب هذا السلوك تشبه قيادة الدراجة في مواجهة رياح عاتية معاكسة.

الحقيقة أننا لسنا بحاجة إلى ركوب دراجاتنا في رياح معاكسة، فالرغبة في الانتصار ليست هي المشكلة، بل إنها واحدة من أكثر طرقنا فعالية للوصول إلى الحقيقة عندما تكون الظروف مواتية، فالحكماء والفلاسفة منذ القدم يرون أن المنطق البشري متحيز وكسول بطبيعته. وحسب ما خلص إليه الكاتبان ميرسيير وسبيربر في كتابهما The Enigma of Reason الصادر عام 2017، فالعقل البشري غالبا ما يميل إلى تبني مبررات وأراء تدعم وجهة نظره، دون الرغبة في تجشم عناء تقييم مدى رجاحة تلك الحجج التي تعزز  قناعاته.

تحيز وكسل

في توضيح أكثر يقول الكاتبان: “تفكيرنا  كسول. هذا هو الخبر السيئ، أما الخبر السار فهو أن عقلنا يتمتع بانتقائية في ذلك السياق، فعقولنا تركن إلى الكسل لدى تقييم الأسباب و الدوافع و المبررات و الحجج الخاصة بنا، فيما يختلف الحال تماما حين نبدأ في تقييم مبررات ودوافع ومنطق آخرين، خاصة إذا كنا نختلف معهم، هنا يتطلب الأمر أن نكون يقظين وحادي الذهن و البصيرة”.

ويدللان على ذلك بما أثبتته تجارب تتبع السلوك البشري حال الدخول في جدل مع مخالفين في الرأي: “عندما نعتمد على التعميم المفرط، فإننا في الأغلب لا نلقي بالا إلى أوجه العوار التي ربما تنال من صواب أرائنا ومواقفنا، لكن حين يبدا أصحاب الأراء المخالفة في التعميم بدورهم، هنا تقفز الحجج المضادة إلى الذهن بسهولة، وتبدو خيالاتنا السببية أقوى”.

محدودية العقل

يستمر الكاتبان في رصد طبيعة العقل البشري ذاهبين إلى ما يمكن أن يطلق عليه المحدودية البشرية: “البشر محدودون بطبيعتهم، كل منا يولد لا يعلم شيئا، ثم يأخذ مسارا معينا عبر العالم، وعلى طول الطريق تتراكم لدينا تجارب بعينها، دون غيرها، نكتسبها عبر التعلم وخبرات المحيطين بنا، دون غيرهم، وقراءة كتب بعينها، دون غيرها، والإفادة من محصلة نقاشات وتطوير نماذج إحساس وروايات بعينها، دون غيرها، وبالتالي نصل إلى استدلالات ونتخيل احتمالات بعينها، دون غيرها، ما يعني أننا نقع أسرى مشاهدة العالم وكل شيء من حولنا من منظور محدود، ويعزز من تلك المحدودية كوننا محكومون بمزيج فريد من الاحتياجات الضرورية الخاصة والشخصية تحتل الصدارة في بؤرة تفكيرنا”.

ربما يتم اختراق قناعاتنا الضيقة في مناسبات متفرقة، حال توفر لدينا الاستعداد أن نفتح عقولنا ونتعلم أشياء جديدة، مثلما يحدث عندما نجادل بعضنا البعض، دون أن تتوفر لأي منا الحجج والعلم الكافي بأبعاد ما نتصدى لمناقشته، أو  حال تحلينا بالقدرة على رؤية الأشياء من وجهات نظر متباينة، فنحن جميعًا لدينا نفس الأدوات المعرفية المحدودة تقريبًا.

محدودية الذاكرة

رغم أن ذاكرة البشر تعمل بشكل أفضل من ذاكرة أي جهاز كمبيوت، إلا أنها لا تزال محدودة للغاية، وثمة طرق للتنبؤ بها، فغالبا ما نفتقر إلى الدقة جزئيا في تقييم أسبابنا و دوفعنا، بحكم محدودية قدرتنا على تصور الاحتمالات. وبحسب المفكر  فيليب جونسون ليرد في كتابه “كيف نفكر” how we reason: “نحن نفكر في احتمالات بعينها عندما نبحث في أمر ما، وهذا ما يفضي إلى أن نذهب إلى استنتاجات خاطئة تميل إلى التوافق مع بعض الاحتمالات فقط، والتغاضي عن غيرها”.

جزء من المشكلة هنا هو أن تجربتنا جزئية مقارنة بمحصلة تجارب المجتمع بأكمله، معرفتنا تقف عند حدود ما نعرف، ولا تتجاوزه للإلمام ماا لا نعرفه، فالحقيقة أن ذاكرتنا العاملة محدودة، وما يتم بناؤه من نماذج ذهنية للتفكير في الأشياء يتسم بنظرة جزئية لا تسمح لنا برؤية كل الاحتمالات ذات الصلة، كما أن المواقف التي نتبناها وندافع عنها غالبا ما تكون متسقة إلى حد ما مع مجمل ما نعتقد، ولو أننا تهيأت لنا فرصة التعرف على المواقف الأخرى لما كنا وقعنا أسرى التمسك بالموقف الذي ندافع عنه في المقام الأول.

 بشكل عام، فإنه في حال الدخول في الجدل يكون الخصم في وضع أفضل لتقييم أسبابنا ومنطقنا مما نحن عليه، فيما نكون نحن في وضع أفضل لتقييم أسبابهم مما هم عليه، فنحن نعرف أشياء لا يعرفونها، وهم بدورهم يعرفون أشياء لا نعرفها، نحن نتخيل احتمالات يغفلونها، وهم يتخيلون احتمالات نتغاضى عنها، فضلا رغبتهم في إدراك الاحتمالات التي فاتتنا بحكم تطلعهم لإنهاء الجدل لصالحهم.

وفي جولات الجدل والمساجلات السياسية التي تحفل بها منصات التواصل الاجتماعي، يبدو جليا أن التسلح بالحجج لن يسعفنا دائمًا، فأطراف النقاش يسعى كل منهم لحسم السجال لصالحه دون النظر إلى أي شيء آخر، لذا يصعب أن نخلص إلى أن الرغبة في الفوز ذات منحى سلبي دائما

قتل العقل

يبدو أن اليعازر يودكوسكي كان محقاً حين قال: “السياسة هي قاتل العقل”، كما أن فرانك هربرت كان على صواب عندما قال إن “الخوف هو قاتل العقل”، فالسياسة تغتال العقل غالبا، تماما مثلما يفعل الخوف. فالدخول في مناقشة بعيدا عن السياسة، على غرار التوقعات حول من سيفوز في مسابقة في الأكل مثلا، لن يكون على المشاركين أن يخشوا من خسارة فادحة، ما يسمح لهم بممارسة “أي حماقات” دفاعًا عن موقفهم، كما أن تنازلهم عن بعض النقاط أو حتى الإقرار بخسارتهم في السجال الدائر لن ينال من سمعتهم.

الأمر يختلف تماما في المساجلات السياسية، فهي ترتبط غالبا بالعديد من المخاوف، مثل أن يخشى أحد الطرفين أن يتم قتل أطفالهم في مدرستهم، فيما يخشى الطرف الآخر تبعات مصادرة أسلحتهم، وفي مثال آخر، قد يخشى بعضهم أن تتجه البلاد نحو فوضى شيوعية، فيما يخشى آخرون أن يسود نظام يسمح باستغلال الفقراء دائما من قبل الأغنياء.

فخاخ خطابية

وغالبًا ما تغطى هذه المخاوف بخوف أكبر من مجرد خسارة الجدل، ففقدان طرف ما القدرة أن يحسم النقاش لصالحه يترتب عليه خوف أكبر أن يفقد المناصرين لمواقفه في المجتمع الأكبر بما يترتب على ذلك من خسارة سياسية. مثل هذا الخوف الطاغي يختطف عقولنا ويقوض التزامنا بقواعد الجدل النظيف، فعندما ترتفع المخاطر لا يقبل الخصم بانتقاد “نقاطه العمياء”، مهما كانت قوة الحجج المضادة، لذا، فإننا نادرا ما نكون على استعداد لتعديل مواقفنا في مثل هذه الحالات، وبدلا من ذلك فإن نمضي في المراوغة والتملص وتغيير الموضوع حين لا تسعفنا الحجج، مع الميل إلى التعتيم ونصب الفخاخ الخطابية وتعمد إساءة فهم الخصم والهروب من المجادلة الخاسرة والسعي لتحويلها إلى منبر للوعظ.

إدارة الخوف

وتنطوي تلك الآليات الإنكارية على مخاطر عالية، عبر محاولة الفوز في الجدالات و السجالات السياسية أيا كان الثمن. ورغم ذلك تبقى ثمة وجاهة في مسعى كل طرف أن يحسم السجال لصالحه، فالبديل هو تجريد الطرف الخاسر من مبررات انتمائه إلى القوى أو الجماعات التي ينخرط فيها، سواء كانت تلك الجماعات سياسية أو اجتماعية أو دينية أو غيرها. لكن علينا أيضاً أن نحتفل بخصم متكافئ يحاول أن ينتصر لموقفه وحججه المغايرة لما نعتنقه من معتقدات أو نتبناه من مواقف، فربما ساعد مثل هذا الجدل القوي في تصويب النقاط العمياء في أنساقنا الفكرية بوتيرة مذهلة.

المعضلة هنا أن هذه المكاسب يمكن أن تتدفق بقوة حقا عندما يسعى الطرفان في مثل هذه المساجلات إلى فوز منصف، لكن المؤسف أن النزاهة تخرج من النافذة عندما يسود الخوف، لذا فإن إمكانات نجاح مثل هذه النوعية من المساجلات رهن تحلي أطراف النقاش بالأريحية حال فقر حججهم، وإدراكهم أن خسارة الجدل لا يعني خسارة القضية أو المعركة بأكملها. الفيصل هنا بقدرة أطراف الجدل على “إدارة الخوف” لدى كل طرف، والالتفات إلى النقاط المشتركة في وجهات النظر المتقابلة، مع الابتعاد تماما عن تصنيف الخصم بتصنيفات مسيئة.

جيم ستون

تعريف بالكاتب: حاصل على الدكتوراة في الفلسفة، جامعة و اشنطن، الولايات المتحدة

هذه المادة مترجمة

تامر الهلالي

مُترجم وشاعر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock