من يوميات طبيب مصري في «جوبا» (2)
لاوجه للمقارنة إطلاقا بين مطار القاهرة الدولي ومطار “جوبا ” الدولى من كافة النواحي، فلا تشعر أصلا داخل صالة مطار “جوبا ” أنها صالة مطار لدولة ناهيك عن أنها دولة حديثة الاستقلال، بل تشعر أنها ربما صالة متوسطة نسبيا لجمعية تعاونية استهلاكية في حي شعبي فقير بالقاهرة !!، حاولت استعادة الصورة التي كانت تأتينا عبر الفضائيات قبل نحو عامين حين انفصل جنوب السودان عن شماله وصورة طائرات الرؤساء والوفود الرسمية التي كانت تهبط في مطار جوبا “الدولى” للمشاركة في احتفالات “الدولة” المستقلة عن جارتها الشمالية بعد سنوات طويلة من الحروب والصراعات الدموية فلم أفلح في التوفيق بين الصورة المنقولة عبر كاميرات الفضائيات والصورة الواقعية التي رأيتها بأم عيني في ذلك المطار البائس بلافتته المائلة الكالحة التي أكلت الشمس الحارقة حروف عبارة (مطار جوبا الدولي) ودهان حوائطه الخارجية فبدت كالحة باهتة وبدا شكل مبنى المطار من الخارج بالحشائش البرية العالية المحيطة به من كل جانب والمقهى البائس خارجه وكأن مبنى المطار معتقل سياسى والجالسون على المقاعد المتواضعة في المقهى وكأنهم في انتظار السماح لهم بالدخول لزيارة أقاربهم المعتقلين!!
وقفنا نحن العشرة أفراد البعثتين الطبيتين في نطاق مطار ( جوبا ) البائس حائرين لاندري من أمرنا شيئا، وفي أذهاننا أن أحدا من سفارة مصر في (جوبا) سيكون في استقبالنا كما أفهمونا في وزارة الخارجية قبل سفرنا لجهلنا بطبيعة البلد ومعلوماتنا المسبقة أن افتقاد الأمن والأمان هو السمة الأبرز في هذا البلد، مرت نصف ساعة تقريبا قبل أن يقترب منا شخص تبدو على ملامحه أنه مصري ولأن “الدم بيحن” فقد بادرنا هو بسؤالنا عن سبب وقوفنا بل عن سبب مجيئنا إلى هذا البلد، فمن الواضح أنه لايأتى إلى هنا من المصريين أو غير المصريين إلا لمهمة مؤقتة فقط!، وحين علم السبب قال : أنا لست مكلفا من السفارة باستقبالكم بل أتيت لاستقبال طبيب واحد يعمل في العيادة المصرية بالعاصمة “جوبا” وقد كان معكم على نفس الرحلة التي أقلتكم من القاهرة إلى جوبا وحين رأيتكم صدفة خمنت أنكم مصريون، وأضاف قائلا: عموما سأساعدكم في إنهاء إجراءات الوصول واستخراج حقائبكم ونقلكم بسيارة أخرى معي غير سيارتي إلى حيث تريدون فشكرناه، وقد كان مقصدنا بعد الوصول الذهاب إلى فندق “صحاري” في طريق المطار والذي لايبعد عنه أكثر من عشر دقائق بالسيارة، وبعد أن أوصلنا أكد مجددا أنه ليس مكلفا باستقبالنا ولم نفهم تأكيداته المتكررة إلا صباح اليوم التالى لوصولنا حين أتى إلى الفندق سائق السيارة الثانية وحصل ماقيمته أكثر من خمسين جنيها مصريا من كل فرد منا نحن العشرة !!
على مسافة لاتزيد عن عشر دقائق بالسيارة من مطار “جوبا “يقع فندق “صحاري” الذي نزلنا فيه مؤقتا، ويملكه (أبو جاد) وهو لبناني شأنه شأن أغلب اللبنانيين مرح، خفيف الظل، يعرف مصر محافظة محافظة وشبرا شبرا وحكى لنا عن تدخله كوسيط لشراء قصر كان مملوكا لأحد أفراد الأسرة المالكة بمصر قبل الثورة بمحافظة الفيوم ولايمل الهزار والقفشات ويعيش بروح شابة مرحة رغم صلعته وما تبقى من شعر رأسه المشتعل شيبا والمنسدل لمؤخرة قفاه وأعطته إضافة إلى ذلك بشرة وجهه البيضاء المشربة بحمرة وردية وأسنانه ناصعة البياض -التي اتضح لنا فيما بعد أنها طاقم-رغم إدمانه للسجائر ومالا نعلم مظهرا غربيا فوضويا خاصة وهو يسير مرتديا بنطالا جينز وفانلة حمالات داخلية وشبشبا عاديا ولا يلوي على شيء، وله صداقات وعلاقات مع طوب الأرض ورغم أنه قد تم الاتفاق معه قبل قدومنا على تخفيض مادي بحيث تكون الغرفة لفردين بمائة دولار في الليلة إلا أنه حادثنا مفتعلا الجدية قائلا: حبيبي إنت وهو أنا أؤجر الغرفة بمائتي دولار في الليلة ولكم أصدقائي المصريين ستكون تكلفة الإقامة مائة دولار لكل فرد فقط، ماذا أفعل أكثر من هيك وسحب نفسا عميقا من سيجارته المستوردة وهو يشير مبتسما بتحية خاصة لفتى وفتاة متأبطين ويلوح لهما بيده اليسرى حاملة السيجارة نحو غرفة محاطة بالأشجار، قال له أكبرنا سنا وقد نال منا التعب مبلغه : أبوجاد احنا مش ناقصين عاوزين ننام وانت باين عليك رايق!، ابتسم أبوجاد عن طاقم أسنانه ناصع البياض وقال: مالك حبيبي! المصريون مش هيك، اضحك ياشيخ محدش واخد منها حاجة ( قالها بصوت أجش مقلدا الطريقة المصرية)، من غير مصاري والله، قلت له: يبقى أحسن وعملت فينا خير!، اتسعت ضحكته وقال: عن جد والله يا أخى نحنا ولاد عرب، قال آخر: عايز أناااام !، أشار لنا أبو جاد على موقع الغرف الخمس وقال: كل اثنين في غرفة، وبعد ماتفوقوا نتكلم.
نحن العشرة عبارة عن مجموعتين، كل مجموعة خمسة منها ثلاث أطباء وصيدلي وفني معمل، المجموعة الأولى -مجموعتي- من المفترض كما قيل لنا في القاهرة أنها ستسافر صباح غد الأحد عبر طائرة هيلوكوبتر إلى مدينة (بور) لتشغيل العيادة الطبية بها وتنضم إلى العناصر التي سافرت إلى هناك منذ أسبوع وهي الطبيب مدير البعثة وثلاث ممرضين وإداري، كذلك المجموعة الثانية ستسافر يوم الثلاثاء عبر الطائرة الهيلوكوبتر إلى مدينة (واو) ومنها بالطريق البري إلى مدينة (أكون) لتلتحق بالعناصر الموجودة هناك منذ أسبوع أيضا لتشغيل العيادة الطبية هناك.
في (جوبا) العاصمة توجد العيادة الطبية المصرية والتي أنشئت قبل بضع سنوات ويوفد إليها أطباء مصريون لتشغيلها من حين لآخر، قال لي زميل مجموعتي الدكتور (أشرف ق) استشاري النسا والتوليد: اليوم السبت ونقترب من آخر النهار وليس أمامنا سوى ساعات لنسافر غدا إلى (بور) ولا ندري كيف سنسافر ولم يلتقينا أحد من السفارة ليسلمنا العمل رسميا وأشياء أخرى كثيرة لابد من الاستفسار عنها في السفارة قبل سفرنا باكر والوقت ضيق، قلت وما العمل؟!، قال: نذهب نحن الخمسة إلى العيادة المصرية هنا في جوبا والقريبة من فندق (أبوجاد) ونستفسر عن هذه الأشياء، قلت: حسنا، ذهبنا نحن الخمسة إلى عيادة جوبا قبيل المغرب بنحو ساعة، طرقنا البوابة الحديدية المغلقة للعيادة، بتثاقل وقبل أن يفتح البوابة نظر لنا أحدهم من فتحة أعلى البوابة مستفسرا عمن نكون ثم غاب بضع دقائق وعاد لفتح البوابة بحذر، بعد أن رحب بنا وأتانا بماء وشاي قال: هذه إجراءات أمنية فالعيادة تغلق أبوابها الرابعة عصرا ولا شأن لنا بالخارج بعد تلك الساعة والمدينة أصلا تغلق محلاتها ومؤسساتها قبيل المغرب ومن الخطر السير في طرقات المدينة ليلا، تعرفنا على أطباء العيادة واستفسرنا منهم عن مكان السفارة المصرية فقيل لنا ستجدونها مغلقة الآن وحتى صباح الاثنين فاليوم السبت يكون رسميا نصف يوم عمل والأحد يوم الإجازة الرسمي هنا في جنوب السودان، ويبدأ العمل الرسمي صباح الاثنين، قلنا: ولكننا مسافرون صباح غد ولابد من مقابلة أحد بالسفارة الآن!، اتصل أحدهم بالأستاذ شوقى شر المدير الإداري بالسفارة الذى قال له: يأتي هؤلاء الأطباء السفارة صباح يوم الاثنين وحينما قلنا له: سنسافر غدا إلى بور حسب تعليمات القاهرة قال : لا أعلم شيئا عن ذلك!،،،