رؤى

«الوهابية».. النشأة، التحولات، الخطر الماثل (2)

لم تعد الوهابية التي قبلت بسلطة الدولة السعودية الثالثة والخضوع لمؤسسها ذات طابع استئصالي، فقد هُزم الإخوان السعوديون المتشددون، وقبل علماء الوهابية بمنطق الدولة الجديد الذي يحترم الحدود والاتفاقيات الدولية ويقبل بمنجزات الحداثة مثل الراديو والتلفزيون والتلغراف.

ورغم محاولة الوهابية الحفاظ علي  الاستقلال في مجالها الديني إلا أن هذا الاستقلال لم يدم طويلا وتم إعادة هيكلة المجال الديني بما يحقق مصالح الدولة. وفي حرب الخليج مثلا عام 1990 وحين أفتت المؤسسة الوهابية بجواز استقدام القوات الأجنبية إلي البلاد فقد كان ذلك تماشيا مع القرار السياسي الذي اتخذته الدولة، ما وضع المؤسسة الوهابية التقليدية في مرمي النيران، باعتبارهم علماء للسلاطين”.

أطوار الدولة

المؤرخون متفقون على أن التاريخ السعودي ينقسم لثلاثة أطوار، الأول مثلته الدولة السعودية الأولي (1744-1818 م – 1157-1233هـ)، وقد انهارت تلك الدولة علي يد إبراهيم باشا وجيش المصريين بأمر أبيه محمد علي، وحسب مصادر تاريخية فإن إبراهيم قد حرث أرض الدرعيه عاصمة الوهابية بالمحراث حتي لا تقوم لها قائمة من جديد.

الدولة السعودية الثانية (1824-  1891م – 1240-1309هـ)، أسسها تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وفيها انتقلت العاصمة من الدرعية إلي الرياض، كما انتقل الحكم إلي فرع أبناء عبد الله بن سعود بعد أن كان محصورا في أبناء عبد العزيز، وأدت الخلافات بين أبناء فيصل بن تركي عبد الله وسعود إلي سقوط الدولة علي يد آل الرشيد الذين كانوا قد أسسوا إمارة في حائل بنجد شمال وسط الجزيرة العربية.

الدولة السعودية الثالثة تأسست في العام (1926/1344هـ)، وهي السنة التي لُقب فيها عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، وفي سنة 1932م / 1351هـ أصدر أمرا ملكيا بتوحيد البلاد في دولة واحدة هي المملكة العربية السعودية.

يقول ستيفان لاكروا المستشرق الفرنسي في كتابه “زمن الصحوة” إن المملكة تظل بقعة معتمة باستمرار في الدراسات التي تتحدث عن الحركة الإسلامية، رغم تأثيرها الهائل علي أفكار وتوجهات تلك الحركات المنتشرة في الشرق الأوسط. ويبدو أن اللحظة التي ترك فيها محمد بن عبد الوهاب  شئون السياسة والحكم لعبد العزيز بن سعود بعد سقوط الرياض سنة 1774م، وكان عمره قد زاد علي السبعين وتفرغ للعلم، كانت إيذانا بانتقال السلطة السياسية بشكل كامل إلي أيدي أبناء سعود الذين أصبح الواحد منهم يُوصف بالإمام بينما أصبح أبناء محمد بن عبد الوهاب يُوصفون بـ”آل الشيخ” أو المشايخ، ولم نعد بشأن سلطتين وإنما سلطة سياسية واحدة تدعمها وتبرر لها سلطة آل الشيخ الدينية.

سيف وخنجر

ولا بد وأن الانقسام الذي واجهته الدولة السعودية الثانية بين أبناء فيصل بن تركي قد جعل الدولة السعودية الثالثة تنظم عملية نقل السلطة وتوزعها بين الأبناء بشكل متساو، خاصة مع إدراكها أبعاد النظام الدولي والقوة العالمية الجديدة القادمة للشرق الأوسط ومنطقة الخليج، وعليه سارعت إلى التفاهم مع الإنجليز أولا ثم الأمريكيين من بعدهم. ويقول جون سي حبيب في كتابه “الإخوان السعوديون في عقدين 1910-1930” نقلا عن أمين الريحاني الرحالة والمتخصص في شأن الجزيرة العربية: “البدو سيف في يد الأمير اليوم، وخنجر في ظهره غدا”، من هنا كانت محاولة توظيف البدو من جانب الدولة الجديدة ليصبحوا قوة يمكنها الثبات في المعارك والتخلي عن صفاتهم المتحولة في ولائها ومواقفها، ولذا قرر زعيمها الذي تقلب في أروقة السياسة الكويتيه منذ أن كان منفيا وأبيه هناك وعرف طبيعة العالم الجديد أن ينشئ حركة “الإخوان السعوديين” عام 1910 مدعومة بالأيديولوجية الوهابية وأفكار علمائها، وعلى سبيل المثال، فإن كتاب “الأصول الثلاثة وأدلتها” لابن عبد الوهاب طٌبع مرات عديدة بين عامي 1918-1920.

بلغ عدد الإخوان السعوديين في بعض التقديرات مائة وخمسين ألفا وقد أنشأ لهم القائد الجديد ما أطلق عليه “الهجر” وهي أماكن استقرار لهم يتم فيها إعادة تنشئتهم على العقيدة الجديدة المتجاوزة للانتماءات القبلية مدعمة بفكرة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بقدر ما مكنت هذه القوة بقيادة فيصل الدويش وسلطان بن بجاد الدولة الجديدة في بسط سلطانها على البلاد بما في ذلك الحجاز ومكة والمدينة والأحساء وحتي جدة، فإنها مثلت قوة متشددة تحدت سلطة الدولة الجديدة واعتبرت أن عبد العزيز بن سعود لا يعبر عن الإسلام الصحيح.

ارتكبت هذه القوة الإخوانية مجازر مروعة في الطائف والحجاز وعلي حدودها قبل فتحها لم تلتزم فيها المعايير الإسلامية، فكانت تقتل الجميع حتي الصبيان وتغير علي المسلمين المختلفين معها بلا إنذار، كما اعتبرت أن المعاهدات التي تعقدها الدولة مع بريطانيا لتنظيم الحدود مع الكويت والأردن والعراق “اتفاقيات لا يمكن القبول بها لأنها عُقدت مع كفار ولأنها توقف الجهاد”.

كما منعت هذه القوة المحمل المصري من الدخول إلي مكة وهاجمت معسكره واضطر المصريون أن يطلقوا النار عليهم، وذلك لاعتراضهم على ما يصاحب المحمل من آلات موسيقية  ابتهاجا بالحج، اعتبرها الوهابيون خروجا عن الدين، ما تسبب في توتر العلاقات بين البلدين لعشر سنوات تالية. واعتمد الوهابيون  “الهداية القسرية” أي فرض رؤبتهم علي الآخرين الذين يعتبرونهم كفارا سواء أكانوا قبائل نجدية لا تدين لهم أو مسلمي الحجاز ومكة والمدينة وجدة والطائف وغيرها من الحواضر، واعتبروا أهلها مترفين لا يطبقون الإسلام وفق طريقتهم. كما أنهم اعتبروا أهل العراق والأردن والعراق ومصر كفارا، وكانوا يهاجمون البلدان المجاورة حتي  وصلوا إلي شرق الأردن، واعتبروا الكويت مرتعا للخطيئة وكانوا يحتجزون من يذهب منهم إليها رجالا ونساء، لدى عودتهم ويخضعونهم للامتحان قبل أن يختلطوا بالناس في “الهجر” المقامة لأنصارهم.

عاب الإخوان على عبد العزيز في مؤتمر الرياض سنة 1927إرساله ابنه سعود إلي مصر التي احتلها الإنجليز النصارى والتي يسكنها مسلمون كفار، وإرسال ولده فيصل إلى لندن بلاد الشرك واستخدام السيارات والتلغرافات والتليفونات وهي بدع نصرانية من عمل الشيطان. وأفتي العلماء الحاضرون بأنهم لا يعرفون قولا في مسألة المخترعات الحديثة واستجابوا لأغلب ما أراده المتشددون الإخوان بما في ذلك منع المحمل المصري من دخول المسجد الحرام ومنع دخول الحجاج المصريين في بلد الله الحرام.

هذه القوة الهائلة التي أصبحت أقوى من الدولة ارتدت إلي صدر من أسسها، إلى حد أن المواجهة التي جرت في السبلة عام 1929 شهدت تفوق قوات الإخوان على قوات بن سعود ثلاث مرات، كما يشير كتاب “الإخوان السعوديون في عقدين”، وهنا كان لا بد من المواجهة معها وإنهاء وجودها المتمرد ذي الطابع الميلشياوي الذي يتنافى مع طبيعة الدول الحديثة التي يقتصر احتكار العنف المشروع فيها على سلطة الدولة وحدها.

الوهابية المعدلة

كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تأسست 1926 كشرطة دينية تحت ضغط الإخوان السعوديين، كما تم دمج قطاعات واسعة منهم في الدولة تحت اسم الحرس الوطني، وتولى بعض المنتسبين إليهم مواقع حكومية معنية بشئون الثروة الحيوانية في البلاد. وسعت الدولة لدمج واحتواء التيارات التي نُزعت منازع التشدد من رأسها، ولذا تسيد العلماء الحضريون وأهل الحجاز وحواضرها الكبرى وأهل القرى والمدن المستقرة وأصحاب الصنائع مفاصل لدولة الجديدة عكس ما كان سائدا في الأطوار السابقة لمسيرة الوهابية من تسيد البدو المتشددين، وهو أطلق عليه هنري لاوست وصف “الوهابية المعدلة” الأقل تشددا وأكثر قابلية للاندماج والتكيف.

شعور علماء الوهابية بفقدان استقلالهم في مواجهة السلطة السياسية الحاكمة المندفعة نحو تحديث المملكة دفع بعضهم لإصدار أحكام تخالف ما أخذت به الدولة، كما فعل المفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ الذي استمر في الإفتاء من عام 1953-1969م في تأكيد الاستقلالية فحرم الزي العسكري وبخاصة السراويل والقبعات لأنه تشبه بالكفار، كما شجب القوانين الوضعية والتشريعات التي أصدرها سعود وفيصل وعارض مراسيم إنشاء المحكمة التجارية والغرف التجارية واعتبرها كفرا مخرجا عن الملة لأنها تضيف للشريعة، وشجب نظام الموظفين وتشكيل هيئة لفض المنازعات لأنها تعني الحكم بغير ما أنزل الله، وفي عام 1967 أعلن أن قوانين العمل والعمال كفر لأنها مناقضة لأحكام الشريعة، وكتب  كتيبا صغيرا بعنوان “رسالة في تحكيم القوانين الوضعية”، وصفها فيه بأنها قوانين كفرية، وكانت هذه الرسالة لاحقا أحد مصادر إلهام المتشددين في مواجهة حكوماتهم ودولهم خارج المملكة، التي اعتبروها لا تحكم بالشريعة.

تدخل الدولة

سعت الدولة السعودية لاحقا إلي التدخل للحد من تأثير هذا التوجه على سلطة الدولة، وفي هذا السياق تم إلغاء وظيفة المفتي وتوزيع الهيئات الدينية التي كانت تتبعه، فظهر مجلس هيئة كبار العلماء الذي يتم تعيين أعضائه بمرسوم ملكي ويختص بإصدار الفتاوي في القضايا المجتمعية والشأن العام، وكذلك اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء وتختص بإصدار فتاو تخص الأفراد، والرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وتختص بالتنسيق بين هيئات ومنظمات الدعوة في البلاد. ويقول ستيفان لا كروا إن هذه الكيانات نشأ عنها ما يُشبه هيكل هرمي في المجال الديني وهو أمر نادر الحدوث نسبيا في العالم السني، لافتا إلى أن أغلب أعضائها ينتمون إلى الأرستقراطية الدينية القادمة مما يُعرف بالهلال النجدي الذي هيمن علي المجال الديني منذ القرن التاسع عشر واحتكر العلم الديني الوهابي وسيطر علي منابره.

تصدير الوهابية

رغم هذا التكيف والدمج الوهابي في سياق الدولة السعودية ظل النفوذ الوهابي قويا في مجال الطباعة والنشر، وتمثل ذلك في إعادة طباعة التراث الوهابي والرسائل والنصوص والمراسلات والأفكار المعبرة عنه، ولم يقتصر الأمر فقط على السعودية وإنما تم تسويقه ونشره بلا توقف خارج المملكة في بلدان عدة من أول الهند  وحتي مصر والعراق والشام والمغرب.

رغم محاولات الوهابية المعدلة تنقيح بعض النصوص ومراجعتها في حواشي شروح محمد بن عبد الوهاب وإعادة تأويلها بما يخفف من الغلواء المروع فيها بيد إن المنزع الأصلي للوهابية ظل حاضرا وبقوة خاصة ما يتعلق بالتكفير للمسلمين والشهادة على النفس بالكفر قبل أن يدخل الشاهد في العقيدة الوهابية، وتأكيد قتالهم كالكفار بما في ذلك استباحة الأموال وتدمير الزروع والآبار والنخيل والثمار في مجتمع يعتبر ذلك أمرا كارثيا لما يمثله من خسارة هائلة لأبنائه وسكانه وأهله المسلمين.

لا يبدو لنا أن الجوانب الإحيائية في أفكار الوهابية تساوي الخسارة الكبيرة والهائلة التي حدثت لتحقيق تلك الأفكار على الأرض، كما أن منازع الهدم القاسية والبدوية في الحركة في تقديرنا تغلب بكثير من حيث نتائجها وخسائرها ما تعتبره هي أفكارا سلفية تعيد الناس إلي العقيدة الصحيحة.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker